مانشيتمقالات

كهف أفلاطون والتكامل الاقليمي

محمد أرسلان علي

نجحت الأنظمة ومن أجل الحفاظ على استمراريتها في التمسك بمقاليد السلطة في ابتداع الكثير من الأدوات التي من خلالها استطاعت السيطرة على عقول الشعوب والمجتمعات من خلال صناعة الرموز المسخة واللامرئية إلا بالنسبة لمن يسعون للاستمتاع بالنظر إليها على أنها من التابوات والمقدسات التي لا يمكن الاقتراب منها، وعلى أنّ ما نراه هو فقط الحقيقة المطلقة، وكل ما عداه لا شيء ولا معنىً له على الاطلاق. وهكذا غدت الشعوب والمجتمعات أسيرة أفكارها المتحجرة والمنغلقة والعاشقة لألهتها التي صنعتها بأيديها.
كثيرة هي الأصنام التي أوجدتها الأنظمة الحاكمة وألّهتها وقدمتها للانسان على أساس أنه لا يمكن أن يبقى الانسان من دون إله يعبده ويلهث وراءه ليل نهار. وأكثر هذه الأصنام التي عبدتها المجتمعات بعد أن تم الترويج لها على أساس أنه لا يمكن للحياة أن تستمر من دونها هي؛ “الفن والرياضة والجنس”. فمن خلال هذه الأدوات قامت الأنظمة الرأسمالية وأدواتها باحتكار هذه الأصنام والترويج لها، بعد صناعة رموزها التي ينبغي على من يسيرون خلفهم تقليدهم في كل حركاتهم واسلوب حياتهم، إن كان على المستوى المحلي أو الاقليمي وحتى العالمي.
وكل ذلك من أجل السيطرة على المجتمعات وإلهاء الشعوب بتوافه الأمور كي لا تفكر بما تسرقه تلك أو هذه الأنظمة خلال تربعها على عرش السلطة الأبدي. مع أنه كانت هذه الأمور من المقدسات في فجر التاريخ، ويجتمع فيها الناس للتمتع بها حتى باتت ثقافة عند الشعوب في التبارز من خلالها. الرياضة مثلاً، كانت من أهم الأحداث أو الفعاليات المجتمعية التي كانت تتم والتي كانت تحث الجميع على الاعتناء بحيويتهم وأكلهم واسلوب حياتهم. لكنها باتت الآن صناعة مدرة للمال بشكل كبير ولا يمكن وصفه. ومن خلال الرياضة يتم صناعة الرموز والتي ينبغي على الجميع تقليدها في ملبسها وحركاتها وقصة شعرها. وما أكثر هذه الرموز في حاضرنا على المستوى العالمي والاقليمي والمحلي، بعيداً عن ذكر اسمائهم. ونفس الأمر بالنسبة للفن، الذين كان يعتبر من أهم الأدوات التي تم استخدامها في تطور ثقافة الشعوب والمجتمعات وحتى صناعة الحضارة بكل ما تملكه من أدوات. إذ، لم يكن الفصل بين الفن والمجتمع بتاتاً، لأن الفن هو حالة تراكم الوعي والفكر المجتمعي. أما بالنظر لما وصل إليه الفن في راهننا، نرى أننا في الحضيض من كم ممن يدعون الفن، وهم ليسوا سوى عبارة عن فزاعات أو كراكوزات للأنظمة الحاكمة التي صنعتهم بالأساس. أما الجنس، فحدث ولا حرج في جعله أكبر مخدر للمجتمعات التي فرض عليها الكبت والعيب والحرام، وكل ذلك باسم الدين الذي منه براء. ومن خلال الجنس تم القضاء على انسانية المرأة، والتي تم تحويلها لآلة توليد وإطاعة الزوج وتلبية نزواته، ليس إلا. استثمرت الرأسمالية بهذه الأدوات على أفضل وجه من أجل أن تهيمن على المجتمعات، وكانت تقوم بذلك إما من خلال العلمانوية أو الدينوية. وكِلاهما برعت فيهما القوى الرأسمالية في توظيفهما لخدمة أطماعها وأجنداتها والحفاظ على أدواتها الوظيفية من أنظمة في المنطقة. ابعدتنا من خلال التدين والعصبوية القومية عن الاخلاق، وزينت لنا التدين على انه أفضل وسيلة يمكن من خلالها التقرب من الله. ولتبقى الحقيقة أن الأخلاق هي فعل الصواب بغض النظر عما يقال لك، أما التدين فهو أن تفعل ما يقال لك بغض النظر عن الصواب، وشتّان ما بينهما.
الجهل والوهم صفتان ينبغي أن تلازمان أي مجتمع يُراد السيطرة عليه. وتعمل الأنظمة على استمرارية هذا الجهل وخلق الوهم عند الناس ليسهل عليها اقتياده كيفما شاءت وأينما أرادت. قراءة التاريخ والماضي، أمر لا بدّ منه لاستخلاص الدروس والعبر لإدراك الحاضر وبناء المستقبل على ضوء ما تم استنتاجه. بينما الاصرار على تقليد الماضي، لا يعني سوى الانغماس أكثر في مستنقع الجهل والذي هو طريق الخنوع والعبودية والتكرار. فكما يقول بن خلدون في التاريخ أنَّ: “اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات”. فنحن نعيش الموت قبل أن نموت بمعنى الكلمة.
على هذه الحالة نعيش منذ قرون ولا نعرف لماذا؟ كثيرة هي المشاريع التي طرحت من أجل الخروج من عنق الزجاجة، ومعظمها كانت إما مشاريع قوموية (قومية متعصبة) أو دينوية (دينية متطرفة). كثيرة هي الامبراطوريات والإمارات التي بُنيت على أساس ديني، سقطت ولم يتبق منها سوى بعضاً من الحكايات يتم روايتها في المقاهي أنه؛ “في قديم الزمان… كان وكان”. وكذلك العصبوية القومية أيضاً لم تفلح في انتشال المجتمع مما هو فيه، بل زادته جهلاً ووهماً، وراح يتخبط ما بين أمواج كِلا الفكرتين ولا زال.
ولا يزال هؤلاء المتوهمون والجهلاء منهم متيقنين من أنَ أفكارهم ستعود وتزدهر قادم الأيام وكأنهم لا زالوا يعيشون كافة تفاصيل “كهف أفلاطون”. حيث مع اصرارنا بالقول بأن العالم أصبح قرية صغيرة، نتيجة الثورات الرقمية والتكنولوجية، إلا أننا الى الحين لم نخرج من كهف أفلاطون ذاك، الذي كان ولا زال. مأسورون في أفكارنا ومتخبطون ومندهشون عن حقيقتنا التي اغتربنا عنها. طأطأة الرؤوس لم تعد تنفع للخروج من هذا المأزق (التعصب القومي “النازي منه والليبرالي” والتطرف الديني “الشيعي منه والسني”)، الذي أوهمتنا به الأنظمة الفاسدة والاستبدادية على أنه طريق الخلاص والرفاه.
فلا الامويون الذين استولوا على مقاليد السلطة كانوا خالدين في حكمهم، ولا العباسيين الذين ثأروا للفرس وأهل البيت، بقوا. ولم يدم الحكم للمماليك والفاطميين ولا الايوبيين، ولا للعثمانيين، الذين تقمصوا وارتدوا رداء الدين بفرعيه المذهبي السني منه والشيعي. جميعهم فشلوا في إدارة المجتمع والناس. فشلوا لأنهم زاوجوا السلطة مع الدين وكما يُقال سيَّسوا الدين وأرادوا عن طريقه تحقيق المكاسب والنهب والفساد. وعلى خطاهم يسير الآن من يحمل لواء المظلومين ويعمل على تشييع المنطقة تحت راية آل البيت، وكذلك من يسعى لاسترجاع ما فقده من أفكار طورانية عثمانية عفا عنها الزمن ودفنها في مدافن التاريخ.
إرادة التخلص من أحمال الماضوية وأفكارها المتحجرة وعمّا يرهق كاهلنا، يعتبر الخطوة الأولى في مسيرة الحرية والانعتاق من الوهم والجهل الذان كانا عنواناً لما كنا فيه وعليه. حينها، لربما سوف يتملكنا الخوف من أن نضطر إلى وضع كل آرائنا وعقائدنا وأوهامنـا على محك السؤال. وينذرنا أفلاطون هنا بالهلاك الذي قد يطالنا متى تشبثنا بظنوننا وأوهامنا، فيؤكد على أن الخروج من تلك الحالة لا يتم إلا متى سعينا إلى تغيير عاداتنا، وعملنا على غربلة يقينياتنا؛ لذا لا بد لنا من أن نبتعد عن تلك العادات واليقينيات، وأن ننشأ نشأة أخرى، وننبعث لنفتح أعيننا على واقع آخر جديد، ونتعلم في الأثناء كيف ننتقل من الواحد والمركزية الفظة والـ “أنا”، إلى المتعدد والاختلاف، ومن المتعدد إلى الوحدة الكاملة. وفق أهم مبدأ من مبادئ ديالكتيك الطبيعة وهو “وحدة الأضداد”. الذي لا يمكن الاستمرارية في الحياة من دونها. ويصبح العيش في البلاهة أمراً لا بدّ منه، حال الاصرار على الواحدية والمركزية الفظة، وعدم تقبل الآخر، على أساس أن له مطلق الحرية في رسم اسلوب حياته، مع احترام حدود الآخر.
لا بد من أن يترافق البحث عن الحقيقة مع تعلق شديد بالمعرفة، وبالحرية التي قد توفرها لنا. وكما ذكر في “كهف أفلاطون” مَثل ضربه أفلاطون في الباب السابع من كتاب الجمهورية، ويقول: “ليست المعرفة هي تلك التي تجعلنا نتقدم، وإنما هي التي تولد لدينا الإحسـاس بالعجز، أمام الحاجة الملحة إلى الحركة”. ولا يمكننا امتلاك المعرفة فقط من خلال ما يتم تلقينه في المدارس والجامعات التي تحولت إلى أكبر منتج للبلهاء والجهلة من المتعلمين. فرغم كمّ الجامعات التي تم بناءها في المشرق المتوسطي، إلا أنَّ الأنظمة الحاكمة مستمرة في الاستعانة بخبراء ومستشارين أجانب لوضع مشروع او رسم خطة للخروج من المآزق الكثيرة التي نحن فيها. وهذا ما يعني أن اسلوب أو المنهج التدريسي والتعليمي الذي لا زلنا نصر عليه، يتبع المنهج التلقيني والحفظي البعيد عن الفهم والإدراك والشك، الذي يحفز العقل والدماغ على التفكير خارج الصندوق.
لا بدَّ لنا العودة للفلسفة للخروج مما نحن فيه من حالة متردية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وثقافياً. والتركيز على طرح الأسئلة على الذات للخرج بأجوبة وردود شافية، يمكننا من خلالها وضع مشروع متكامل مستقبلي. وأثناء الشروع في طرح الاسئلة ينبغي توخي الدقة بأن نبتعد قدر الامكان عن طرح سؤال يبدأ بـ “لماذا؟”، بل الاعتماد أكثر الأحيان على أن يبدأ بـ “ماذا؟”. لأن الفرق بينهما شاسع وكبير. فالأول أي “لماذا”، يجعلنا نبحث عن الاسباب في الخارج ونتهمه بأنه السبب فيما نحن فيه. بينما “ماذا؟”، تحثنا في البحث في داخلنا وذاتنا عن الأسلوب والطريقة الأفضل للخروج مما نحن فيه لوضع خطة مستقبلية واضحة.
التكامل الاقليمي ما بين شعوب المنطقة والذي يعتبر خطوة في مسيرة الأمة الديمقراطية كفلسفة طرحها السيد أوجلان للعيش المشترك ما بين شعوب المشرق المتوسطي بكل أثنياتهم ومذاهبهم وطوائفهم. ولا يمكن التوصل للتكامل الاقليمي من دون البحث عن حقيقة الثقافات المشتركة التي تجمع شعوب المنطقة مع بعضها البعض، والتي لا يمكن تقسيم عُراها بحدود سياسية مصطنعة، والتي باتت أمراً واقعاً على مجتمعات وشعوب المنطقة. إذ، لا يمكن كتابة تاريخ العراق من دون سوريا ومن دون مصر ومن دون لبنان ووو الخ، والعكس صحيح أيضاً، لا يمكن التعبير عن تاريخ مصر من دون سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. هذا من الناحية القطرية. فما بالك من ناحية الشعوب والثقافات التي اختلطت مع بعضها البعض على مرّ التاريخ. فهل يمكن كتابة تاريخ العرب من دون الفرس ومن دون الكرد ومن دون الترك، وكذلك من دون اليونانيين والرومانيين والأرمن والآشوريين. مستحيل أن نفصل ما بين هذه الشعوب وثقافاتها. فهذا ما نعنيه بالتكامل الاقليمي لثقافات شعوب ومجتمعات المشرق المتوسطي. بالتكامل الاقليمي والعيش المشترك فقط، يمكننا رسم لوحة جميلة عن المنطقة. لوحة يكون فيها طائر الفينيق اللبناني محلقاً عالياً بالقرب من عشتار السورية آلهة الحب وتحت وهج شمس الايزيديين الكردستانيين، ملوحاً لمردوخ العراقي وأخناتون المصري، بأن مسيرة الإله التوحيدي سيبدأها ابراهيم من أورفا الكردستانية ليهبط بيروت والقدس الكنعانية، ليكمل مشواره موسى في التيه، حتى مجيء سيدنا عيسى المسيح ليكون قرباناً لخطايا البشر، وليسلم راية الحق في مكة. لوحة موزاييكية لا بدّ لها أن تكتمل لتكون عنواناً للتكامل الاقليمي والعيش المشترك.

زر الذهاب إلى الأعلى