المجتمع

قريةٌ على درب الوفاء ونهج الخالدين (1-2)

للأمم والشعوب مقاييس واضحة في إظهار مدى تعلقِها بالحرية؛ وإصرارها على الحياة بشكل حُرٍ وكريم، وقد تكون الذاكرة الحضارية والثقافية لتلك الأمم والشعوب والارتقاء بالإنسان مرهونة بعمقِ وغنى إرثها النضالي على مدى مسيرتها التاريخية المتجددة بالمآثر والملاحم التي نسجها أبناؤها بدمائهم، وهذبوها بأرواحهم المتوارثة. لذلك يمكننا القول أن أكثر المقاييس عظمة في تاريخ الأمم والشعوب هي حجم التضحيات التي قدمتها تلك الأمم والشعوب لانتزاع أو صيانة حريتها أو بعبارة أخرى عدد الذين ضحوا بدمائهم في ساحات الوغى، لصون كرامة وحرية أوطانهم. إنهم العظماء فقط من يسطِّرون التاريخ، أنهم فقط من يبحثون عن العمق المتجسد في صيرورة الأرض التي نعيش عليها. هل فكر أحدكم يوماً، أن من يضحي بالغالي والنفيس، ألا وهو (الروح والجسد)، بماذا كانوا يفكرون؟ أيَّة وردة، أيَّة سنبلة كانوا يعشقون؟ وأيَّ بلاد وأيَّة نسمة وهمسة حبٍ أبديَّة كانت بداخلهم ليُحَلِّقوا بعيداً عنا ويغادروا هذه الحياة بكل بساطة؟ هل شاهد أحدكم ابتسامتهم وضحكتهم وقهقهتم وهم يُغنُّون للشهادة؟ أجل قد يكون من الصعب تعريف الشهيد وإضفاء نوع من المعنى الحقيقي لمفهوم الشهادة، ذلك لأن الشهيد هو تعريف للحياة بذاتها والشهادة هي المعنى الكامل الكامن للمعاني السامية للقيم والمبادئ والأخلاق والفلسفات؛ وخلاصة ما سعى إليه الأديان لخلاص الإنسانية وارتقاؤها نحو الفضيلة والعدالة والحق الذي يفضي إلى العشق النقي للحياة ذات المعنى الخالية من الألم والاستعباد، قد يكون سعينا إلى معرفة الشهداء كالسعي في بحر من المعاني والقيم، والغوص في بحر الشهداء يتطلب تجسيد صفاتهم، ومعرفة واسعة لتفاصيل غاياتهم، وأهدافهم التي ضحوا من أجلها بأغلى ما يملكونه، فالشهادة في هذا الإطار قد تعني بمعناها المبسط  هي الموت في سبيل الأهداف السامية، ولكن الشهادة بمعناها الواسع تعني أعلى درجات الحرية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها. ربما الكثيرون يستخدمون مصطلح الحرية ليصل إلى درجة من الحياة الهانئة أو نوع من اللذة الآنية الفانية أو شعوراً بالغرور والتكبُّر دون أن يدركوا من أن الحرية بحد ذاتها هي المعنى والقيمة والمبدأ والمفهوم الخاص بالنضال الذي خاضته وما تزال تخوضه الشعوب والطبقات الاجتماعية المظلومة ضد عروش الظلم والاستبداد، وأن أعلى درجاتها هي الشهادة التي نالها الخالدون من أبنائها، وعلى ضوء هذه الرؤية نجد أن الكثير من المقولات والمفاهيم التي احتلت أماكن مقدسة في تاريخ الشعوب لم تصمد أمام قوَّة التغيير واختلاف ظروف الزمان والمكان؛ فمهما بلغت قُدسِيَّة بعض الأشياء في وقت ما من تاريخ الشعوب؛ نجدها مجبرة على التأثر بعامل الزمن حيث لم تَعُدْ الشعوب التي أحرزت شوطاً آخراً من التقدم والرقي أعطتها نفس الاهتمام ولم تعد تُكنُّ لها نفس الاحترام، إلا الشهادة التي تزداد قُدسيَّة وسمواً بازدياد مستوى الوعي الاجتماعي والإنساني لدى الشعوب، فكلما أدركت المجموعات البشرية أن الحياة لا تملك أيَّة قيمة إلا إذا اقترنت بالحرية والمساواة ؛كلما ازدادت حُبَّاً واحتراماً لأولئك الذين دفعوا ضريبة الدم في سبيلها. فالشهداء هم الماضي القريب ومصدر قدرتنا على الحياة في الحاضر وقوة الدفع الأساسية التي توجِهُنَا دون خوفٍ نحو المستقبل الزاهي، لقد قدَّم الشعب الكُردي منذ ظهوره وحتى الآن مئات القوافل من الشهداء إلى درجةٍ بات يُعْرَفُ بشعب الشهداء، وقد لا يكون من  قبيل المصادفة المقولة التي تقول: يستحيل تحرير وطن وشعب دون الشهداء؛ فشهداؤنا هم الذين حققوا لنا هذه الحياة المُشرِّفة، وهذه المقاومة التاريخية في جبالنا وقُرانا ومُدننا ونَسجوا بدمائهم خارطةَ الوطنِ وجعلوا منا ذوي هامات منتصبة، وانتشلونا من الواقع المتردي ومن القذارة التي كانت تنخر في أجسادنا منذ آلاف السنين، وعلينا أن نعرف بأنهم قد ابتدعوا لنا حياتنا وأكسبوها الاستمرارية من خلال إيقاف حياتهم، وجعلوا من أجسادهم جسراً لنا للعبور نحو الكرامة والحرية؛ لم ينتظروا الموت لتأتي إليهم بل صعدوا إليه واجتازوه ليصنعوا من الموت حياةً أبدية تنهل من منابع إرادتهم أجيالاً لتعيش الإنسانية بفضل دمائهم وأجيالاً أخرى ستلد أحراراً بفكرهم ونهجهم، قد يكون من الخطأ الفادح القول: إن الشهداء قد ماتوا ورحلوا ولكن من الصواب والأصح القول: إنهم ألجموا الموت الذليل والحياة النفعية وشيدوا أسس المجد ورسخوا الحياة نحو الخلود، وهنا يمكننا القول: إن من أكثر القيم والمبادئ التي جعلت من حركة التحرر الكردستانية عظيمة الشأن إلى يومنا الراهن هي تمجيدها للشهداء وتجديدها وتجسيدها لنهج الشهداء ومسيرتهم عملاً وقيمة متأصلة في فلسفتها ومنهجها وفكرها وجعلها ميراثاً ومنبعاً في سبيل تحقيق غاياتهم وأهدافهم، فهم القادة المعنويون الحقيقيون والبوصلة التي توجه مسيرتنا إلى الطريق الصحيح وسلسلة متواصلة من النضال والمقاومة يستحيل على أية قوة مهما بلغ جبروتها النيل من حلقاتها المترابطة برابط الوفاء، وأن الذي يجب أن ندركه ونعيه تماماً أن مسيرة تتقدمها قوافل الشهداء سوف لن تقبل بأقل من النصر.

الكثير منا استشهد له أحباء على قلوبهم وقد يرغب الكثيرون ما يذكرهم بحياتهم وآمالهم وغاياتهم ويرغب في استرجاع طيفهم وتحركاتهم وابتساماتهم ويريد أن يحتضنهم ويعاتبهم ويستمع إلى كلامهم وهمساتهم وخاصة عندما يتحول الشهداء إلى ذاكرة مجتمعية شعبية جمعية، حينها يكون تخليد ذكراهم ميراثاً ومنبعاً تَستمدُّ منه الإنسانية صيرورتها الطبيعية التي فطرت لأجلها، ومن هذا المنطلق ارتأت صحفية الاتحاد الديمقراطي إلى مشاركة قُرَّائها بجزء يسير من مسيرة عشرة من شهدائنا الخالدين في  قرية “خزنة الكبيرة” والتي كانت حقاً كبيرة بتضحياتها وشهدائها .

خزنة، القرية التي دفنت أوجاعها لسنين، ما بَرِحَتْ وهي توقد النيران بتروِّي وهدوء، خزنة القرية التي حاول الكثيرون ومنذ زمن البعث النيل من عزيمتها وكسر إرادتها بضرب الفكر التحرري تارة وتارة بسجن شبابها ورجالها، وتارة بدس العملاء وتارة أخرى بتوجيه شبابها نحو التطرُّف الديني وزرع أفكار تقديس المشايخ ورجال الدين وإلهائهم عن قضيتهم، إلا أن قرية “خزنة” بقيت صامدة رغم كل الخطط ؛في تقييد وكبح جِماح الحركة التحررية بداخلها، حيث وفي كل محاولة لهم، كان الإصرار نحو التحرر وكسر القيود يزداد في عقول شبابها، خاصة وأن أغلبهم، لا بل أكثريتهم كانوا طلاب جامعات وخريجي معاهد.

أجل هذه هي خزنة، التي عندما كان يُذكر اسمها، كان الجميع يفكر إنها فقط منزل الشيخ، وأن أهل القرية مُريدون ومتحفظون، إلا أن العكس كان صحيحاً، فالجيل الذي نشأ مع بداية ظهور “الفكر التحرري الكردستاني” في “روج آفا” في سنوات الثمانينات كان يزداد يوماً بعد يوم عطشاً للحرية، حتى أصبحت فيما بعد الجبال قِبلةً لهم، وعلى الرغم من المزيج الذي تمتاز به هذه القرية وتنوُّع الأفكار والمناهج ضمن أفرادها، إلا أنهم دائماً كانوا يداً واحدة فيما بينهم عندما كان يتطلب الأمر، وظهر هذا جلياً في المعارك والاقتتال الذي دام لسنوات بين قرية “خزنة” والمستوطنات البعثية التي استولت على أراضي خزنة بموجب سياسات عنصرية وقوانين استثنائية جائرة وبتواطؤ مع بعض شخصيات الكرد وبعض المشايخ آنذاك وحكومة البعث، وبعد تبلور الفكر التحرري في عموم كردستان و”روج آفا” بشكل خاص والتحاق الآلاف من الشباب بصفوف حركة التحرر الكردستانية, لم تكن قرية خزنة بعيدة عن هذه التحولات والمنعطفات العظيمة في تاريخ الأمة الكردستانية، لكنها كانت من أوائل القرى التي فتحت أبوابها لكوادرها وتبنت نهجها وفكرها التحرري والسباقة في التحاق أبنائها بصفوف مقاتليها لتبقى وفيَّة لنهج شهدائها إلى يومنا الرهن؛ مقدمة الشهيد تلو الشهيدة كسلسلة مرابطة من الوفاء والإصرار على الحياة الثورية الحُرَّة الكريمة حيث يمكننا في هذه الجزئية أن نستذكر مع قُرَّائنا لمحةً قصيرةً لعشرةٍ من الشهداء الأبرار الذين أنجبتهم أمهات قرية خزنة :

الشهيد عاصم حمو العبد الله, الاسم الحركي جهاد خزنة, وُلِدَ في كنف عائلة فقيرة توفي والده وهو ما يزال صغيراً في السن, يقول كل من عرفه وصادقه وعاشره: إنه كان إنساناً نبيلاً متواضعاً مُحبَّاً لأهله وأصدقائه، يمتلك صفات كانت تخوَّله للتأثير على مِن حوله، يُحسن انتقاء اللحظة المناسبة للمبادرة في الحديث والعمل معاً، كان جاداً في عمله ويتقن في تنفيذ المهام المُوكَلةِ إليه، ينقل بين العديد من الجبهات في شمال وجنوب وشرق كردستان كان مقداماً وجريئاً وسريعاً في الانقضاض على الأعداء استُشهِدَ هو ومجموعة من رفاقه في شرق كردستان إثر معارك ومواجهات ضارية مع المحتل الإيراني بعد أن قتلوا العديد من الجنود الإيرانيين, ووري الثرى في مقبرة الشهداء على جبال قنديل .

الشهيد حسين علي, الاسم الحركي “أورهان خزنة” وُلِدَ يتيماً من والده وتربى في كنف عائلة فقيرة ومتواضعة حيث أشرفت أمه على تربيته تأثر منذ نعومة أظفاره بفكر حركة التحرر الكردستانية والتحق بصفوف الكريلا وهو لا يزال في مقتبل العمر, كان دائم الابتسامة محباً من كل أصدقائه ومحل احترامهم كان هادئاً كالنسيم الذي يفوح منه رائحة العبق والطيب، محباً لأصدقائه كمحبته لذاته ورؤوفاً برفاقه لدرجة لا توصف، وكان بتواضع الطبيعة وسخائها الذي يعطي ولا ينتظر مقابلاً لعطائه، وقد كان محل ثقة ومحبة من رفاقه والذين عرفوه، وكان محل شد وجذب هائلة لرفاقه ومقنعاً لهم في ما يؤمن به ويتبناه؛ يرى عشق الوطن متجسداً في هيئة وصورة الأم، منها بدأ وإليها سينتهي غايته الأسمى، ليكون خير من عاهد وأوفى بعهده، لينال أعلى درجات الوفاء لمن سبقوه بالشهادة في سبيل رفعة وكرامة وطنه، حيث تنقل بين العديد من الجبهات في شمال كردستان وكان شاهداً على العديد من الملاحم والمآثر التي خاضتها قوات الكريلا كملحمة الزاب وحفتنين وغيرها إلى أن نال الشهادة في جزيرة بوطان بشمال كردستان ووري الثرى في مقبرة الشهداء بجبال كردستان .

الشهيد “خيري عناد خلف”، الاسم الحركي” شورش خزنة” وُلِدَ في كنف عائلة وطنية مشهودة لها بتبنيها لفكر وفلسفة حركة التحرر الكردستانية منذ بداية انطلاقتها وانتشارها في “روج آفا”, تأثر بوالده الذي كان من أوائل المنتسبين لحزب “الاتحاد الديمقراطي” منذ العام 2003 والذي تعرض للعديد من المضايقات من قبل سلطة البعث والفصل من الوظيفة والاعتقال لقرابة العامين مع ابنه الشهيد “عكيد خزنة” أخ الشهيد “شورش خزنة”, ومع بداية الأحداث في سوريا وانطلاقة ثورة “روج آفا” كانت الفرصة مواتيةً تماماً للشهيد” شورش” والذي طالما كان بانتظارها ليترك صفوف الدراسة حيث كان حديث الانتهاء من مرحلتها الثانوية ويكون من أوائل الشباب الذين التحق بصفوف وحدات حماية الشعب YPG  وخاض في صفوفها العديد من المعارك ضد قوى الإرهاب كالنصرة وأحرار الشام وداعش وغيرها إلى أن استشهد في قرية (جيلك) التابعة لتربسبية ووري جسده الثرى في مقبرة الشهيد “دلشير” في قرية “دوكر”. الشهيد خيري (شورش خزنة) مثال المقاتل الثوري الذي جمع خصال المناضل وقيمه التي استشهد في سبيلها الرعيل الأول من حركة “التحرر الكرتستانية” ووفياً لمسيرتهم ونهجهم ليجسد مبادئهم في روحه وسلوكه وعمله واستشهد لأجل ترسخ بنيانها وليكون له الفضل في التحاق العديد من الشباب بوحدات حماية الشعب حيث سُميَّتْ كتيبة باسم “شورش خزنة” ولا يزالون في ساحات الوغى أوفياء لدرب انتهجه الشهيد خيري وأكمله من بعده رفاق لحقوا به في الشهادة وشباب لا يزالون أوفياء مستمرين لتحقيق غاياتهم وأهدافهم في النصر والحرية .

إعداد: ياسر خلف

زر الذهاب إلى الأعلى