تقاريرمانشيت

في ذكرى ميلادها سكينة جانسيز … حياة كلها ثورة وصراع

قراءة في شخصية وكتاب
اعداد علي أبو الخير


ميلاد في الزمهرير
تعرفت على اسم الثائرة الكردية سكينة جانسيز، فقد اشتهر اسمها بعد اغتيالها على يد المخابرات التركية، بتواطؤ مخابراتي فرنسي، وذلك يوم 9 كانون الثاني 2013 ، وتناولت وسائل الإعلام حينها اسمها وثوريتها، ونبل مقاصدها، وأن الدور التركي الفرنسي، هو الذي قاد لإسكات صوت ثائرة تريد الحرية لشعبها، وذلك بقتلها بدم بارد.
ثمّ مؤخرا، تعرفت عليها وعلى فكرها الثوري الأممي من خلال قراءة مذكراتها بعنوان (حياتي كلها صراع) ، وهو عنوان صادم مبهر في شكله وفي مضمونه، وهو عنوان يعبّر عن رحلة حياتها، فحياتها منذ الطفولة بالفعل كانت صراع مع النفس وصراع مع الاستبداد/ والكتاب تم الانتهاء منه في شهر تشرين الأول عام 1997، أي قبل وفاتها بستة عشر عاما، ولم تكن بلغت الأربعين عاما، وهو عمر القوة والنشاط والشباب، فكان الحياة كلها صراع قبل الكتاب وبعهده.
ثم جاء الكتاب معبرا عن ذكرياتها الشخصية، مندمجة مع رؤيتها الثورية، ولذلك فقد صدقت المترجمة الأستاذة “بشرى علي”، عندما قالت عنها (سكينة غير الساكنة سكينة الثورة)، لأن اسم سكينة يعني الهدوء والسكون، ولكن (سكينة جانسير)، لم يكن في حياتها إلا الحركة والانتقال والثورة والتمرد، وكلها كلمات تنافي اسمها.
أما الدكتورة آمال قرامي، فقد كتبت في تقديمها للكتاب عن (ثورة كردستان هي ثورة المرأة) وان سكينة تأثرت بشخصيات أثّرت في نحت شخصيتها مثل انديرا غاندي وغاندي وفيديل كاسترو، ولكننا نرى أن سكينة لم تكن متمردة ماركسية، ولكنها ثائرة ضد الظلم، أيّا ما كان مصدره، وتنتمي للعالم المثالي، الذي مثّله غاندي بتدينه، وإنديرا بالليبرالية، وكاسترو بماركسيتة، ونحن نرى أنها تأثرت بكل القيم، ولكن الاثر الأكبر هو الظلم الذي عاشه ويعيشه الشعب الكردي، الذي دافعت عنه، وقضت سنوات في السجون، وفي النهاية قدمت نفسها فداء لحبها لشعبها، فصارت ضميراً في تاريخه.

ذكرى الثائرة
في ذكرى ميلادها رأينا أن نكتب عن ثورية تلك المناضلة، فقد ولدت يوم 12 شباط 1958 ، وهي تتحدث عن مولدها في ليلة الزمهرير، كما أسمتها، وتاريخ ميلادها الرسمي هو 12 شباط، ولكنها تقول إنها ولدت في قرية”عرش الخليل” التابعة لمدينة “ديرسيم”، في أول العام، وسجلها أبوها بعد عودته في إجازة، حيث كان يخدم في الجيش التركي، وبالفعل أصبح ميلادها الرسمي هو في منتصف شهر شباط، او بحسب تعبيرها (من حسن الحظ أو أولد في بداية السنة الميلادية) في منتصف الشتاء في منطقة جغرافية تُعرف بشتائها المثّلج والقارص كالزمهرير، وتشربت حب شعبها الكردي بقوة الدافع الثوري القومي، هذا وقد نصحتها أمها ( لا تخجلي من هويتك الكردية)، و رؤيتها الثورية وروحها التقدمية، أخذت بالنصيحة لآخر حياتها، فقد علمتها أمها الصراع والتمرد، وربما روح الثورة منذ ليلة من الزمهرير، ولدت وماتت فيها، أي في الشتاء القارص، سواء في موطن الميلاد في ديرسيم، أو برد باريس القارص أيضا، ولكنها حلمت بدفء استقلال شعبها، ولم تتردد عن ندائه، وقدمت روحها بسب التمرد الذي عاشته، والثورة التي قادتها لصفوف الثائرين في كل مكان في العالم.

روح الثائرة ووعي الثورة
إن سكينة هي روح الحرية المزدهرة في هذه الأراضي. ومسيرتها هي مسيرة الحرية والديمقراطية التي تُعبِّر عن الأمس واليوم والغد.
إنها مسيرة كل القِيَم الجميلة والفاضلة المُحصِّنة لحركة الحرية الكردستانية، وهي تُمثِّل مجموع إرث العدالة والحق والمساواة والوجدان والحرية والديمقراطية البارزة في كدح المرأة، والنابعة من هواء وماء وجذور هذه الأرض التي تمتد لآلاف السنين.
لم تكن سكينة مجرد ثائرة كردية، ولكنها أيضاً مناضلة أممية، تميزت دوماً بالإيمان الثوري وبالمعنويات، وكانت جريئة في طرح أفكارها، حتى ولو كانت تلك الأفكار عكس التيار.، وربما هذا ما جعلها تترك أثراً غائراً في كل مكان وفي قلب كل شخص التقى بها، رجالاً ونساء، أطفالاً وشباباً وعجائز.
وعندما نتعرف على كلماتها، نشعر بمدى الصدق الذي تتميز به، تقول مثلاً في صفحات الكتاب (الجرأة حالة من الحالات الثورية) وهو قول صحيح، فالثائر لابد أن يكون جريئا بالحق والصدق، كما أضافت أن (المرأة محل ثقة أكثر من الرجل)، والمرأة التي تقصدها هي المرأة الثائرة، وليست المستكينة القابعة في قعر دارها، كما أنها أضافت بأنه (إذا قررنا شيئاً فسنفعله حتماً) وبالفعل قررت ونجحت، تآمر عليها الفاشيون الأتراك والليبراليون الفرنسيون، لا فرق عندما يتعلق الأمر بسياسة الاستقلال الذي يطالب به الشعب الكرردي.

نضال سكينة جانسيز
بدأ نضال حرية الشعب الكردي في التاريخ الحديث بقيادة القائد الأسير الحر بروحه وعقله “عبد الله أوجلان” عام 1978، بعد الإعلان عن تأسيس “حزب العمال الكردستاني”، وسطَ أجواء تتحكم بها سياسة الإنكار والإبادة ضد الشعب الكردي من جميع النواحي وعلى كافة الأصعدة.
وكانت سكينة جانسيز واحدة من امرأتَين شاركتا في المؤتمر التأسيسي للحزب من أصل المجموعة التأسيسية التي بلغت 23 شخصاً حضروا المؤتمر، وقد ذُكر من حينها أن حرية المجتمع تمر من حرية المرأة.
أقسَمت سكينة، التي عُرفَت أيضا بلقَبِ “سارة”، على أن تكون صوت الحرية للمرأة التي يُراد استعبادها، وأن تكون روح الشعب الكردي الذي يُراد القضاء عليه، ولم يكن انخراطها في صفوف هذه الحركة اليافعة سهلاً، وقد ذكرت ذلك في إحدى مقابلاتها قائلةً: “لقد تخليتُ عن العائلة، ورفضت ضغوطها عليّ، وأصرَّيتُ على الالتحاق بالثورة”.
وبعد انخراطها في صفوف حزب العمال، باشرت “سكينة” بتسيير الأنشطة التنظيمية في مختلف مدن شمال كردستان (تركيا)، إلى أن اعتُقِلَت يوم 12 أيلول 1980 فبقيت في سجن ديار بكر أكثر من عشر سنوات، ليُفرَج عنها في عام 1991، وتذهب إلى أوروبا بعد تلقي التدريب في سهل البقاع، لتشرف هناك على تنظيم الأنشطة النسائية. لكن الإنتربول الدولي كان قد وضعها على اللائحة الحمراء بطلب حكومي تركي، فاعتُقِلَت في شهر آذار عام 2007 في فرنسا، لتبقى قرابة شهر ونصف في سجن دامتور، إلى أن يُطلقَ سراحها بعد ذلك.

ثورتها في سجن ديار بكر
عرف حزب العمال كيف يتعامل مع انقلاب 12 أيلول 1980التركي العسكري الفاشي، الذي تزعمه الجنرال (كنعان ايفرين) مع مجموعة من الضباط فقد تشتتت الكثير من القوى والحركات اليسارية في تركيا، ولكن الحزب العمالي ظل يقاوم ويثور ويصمد، فكانت مقاومة السجون طفرة نوعية، حددت ملامح الحزب، حيث استشهد الكثير من أفراده، منهم مظلوم دوغان وكمال بير وخيري دورموش والكثيرون بمقاومة باسلة في سجن ديار بكر.
وكانت مقاومة سكينة لبنة أساسية في هذه المقاومة التاريخية، ضد التعذيب الوحشي الذي ليس له مثيل، وكانت مقاومتهن مؤثرة جداً، وخاصة سكينة، التي حافظت على وقفتها الأبية تجاه شتى أنواع التعذيب، فتحولت إلى أسطورة بين رفاقها وشعبها على السواء، وكانت تثور على الظلم والغبن الذي يتعرض له المعتَقَلون الكرد في سجن ديار بكر على يد الجلادين الأتراك الفاشيين.
وتقول سكينة عن تلك الفترة : “كان السافل أسعد أوكتاي ( وهو الضابط التركي المسؤول في السجن) يُعرِّضنا جميعاً لشتى أنواع التعذيب، لكنني وقفتُ أمامه، وحدّقتُ في عينيه اللئيمتَين، وبصقتُ على وجهه القذر”، وتعرضت لأقسى أنواع العنف والتعذيب بقسوة الجلادين منعدمي الضمير، ولكنها في النهاية بصقَت على وجه جلاّدها، دون أن تأبه بما ستلقاه من عقاب جراء ذلك، فقد منحت حياتها للثورة، وما من شيء آخر ستخسره في السجن، وقد ذاع صيتُ فعلتها هذه، واعتَبَرها كثيرون أنها عملية جريئة للغاية، (كما قالت إن الجرأة لابد أن يتصف بها الثائر) في ظل التعذيب السافر الذي يتعرضون له، كما كانت تنشر المرح بين رفاقها ورفيقاتها حتى داخل السجن، كي تخفف عنهم وطأة العذاب الذي يعانونه.

اغتيال سكينة الثورية في مدينة الديمقراطية
في 9 كانون الثاني 2013 تم اغتِيال سكينة جانسيز مع الرفيقتين (فيدان دوغان، ممثلة المؤتمر الوطني الكردستاني)، و(ليلى شايلماز)، ممثلة حركة الشبيبة الكردية في أوروبا؛ وذلك عندما كنّ في مبنى مكتب الاستعلامات الكردستاني بالعاصمة الفرنسية باريس.
حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يبرئ نفسه من الجريمة، فقال بعد الاغتيال أنه “قد يكون الأمر تصفية حسابات داخل الحزب”، وهو يشيع الكذب، للتفريق بين القادة الأشقاء الكرد، لكن الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني أصرّا على أن هذا الحدث “اغتيال” و”فخ” يهدف إلى سد الطريق أمام مرحلة المفاوضات في سبيل حل القضية الكردية.
ولقد اعتُقِل الفاعل “عمر غوناي” بعد الحادثة بأيام، إلا إنه قُتِلَ داخل السجن الذي كان فيه بفرنسا، وهو اغتيال للقاتل ليموت أثر الجريمة، خاصة وقد تبين أن القاتل عضو فاعل في المخابرات التركية، وأنه كُلِّف بقتل “سكينة جانسيز”، عبر مشاركة القاتل في نشاطات “الجمعية الكردية” في فرنسا لتمويه نفسه وتسهيل مهمته.

مسيرة الحرية باقية
لكن اغتيال سكينة جانسيز ورفيقتَيها زاد من عزيمة حركة الحرية على النضال في سبيل الحرية، وضاعَفَ من قِيَمها المعنوية. حيث تحولت روح الحرية التي تميزت بها (سكينة) إلى روح النور والنار لحركة الحرية الكردية، ومحفّزاً لها على المقاومة والصمود أكثر. ذلك أن كل شهادة في هذه الحركة تُزيد من إرث المقاومة وتعزز روح الصمود لديها.
رحم الله الشهيدة الثائرة سكينة جانسيز … سلام على روحها .. وأبقى الثائرون جذوة الثورة الكردية قائمة حتى النصر ..
وتظل سكينة جانسيز خالدة في قلب وضمير شعبها وقلوب وضمائر الأحرار في كل مكان من العالم الواسع.

زر الذهاب إلى الأعلى