ثقافةمانشيت

في خصال شهداء الثقافة والفن (مزكين كما اسمها إحدى رموز حركة التحرر الكردستانية)

لا يمكن للإنسان أن يرى الحقيقة أو يتحدث بها من دون أن يبحث عنها، لأن هوية الشخص تتحدد عبر ذلك البحث الذي أخذه نحو الحقيقة التي تكشف له الحرية المطلقة، إلا أن على ثرى الأرض المقدسة هناك حيث الجبال تطال السماء تتعايش الأضداد بين ثنايا الطبيعية الخلابة بكل تناغم رُغم تغّايرها، السعادة والحزن، الضحك والبكاء، الحرب والسلام، هذه الأرض شاهدة لكل روايات وأساطير العشق وملاحم بطولات أبنائها الذين ضحوا بدمائهم الزكيّة في سبيل أن تبقى كما هي في قدسيتها كدماء أبنائها.

أرض مَزوبوتاميا احتضنت أناس مقدسين، خاصة اللواتي منحّن الحياة والوجود الإنساني معّنى حقيقة الوجود، اللواتي حَذونّ حذو الإنسانية وحقيقتها، أيا ترى هذه الأرض المقدسة احتضنت مَنْ منهم ومَنْ لم تحتضن، مُقابل هذه القُدسية يتساءل المرّء، ما ثمن هذه القدسية؟.

تاريخ هذه الأرض محفور في ذاكرة الأمهات وفي ترانيمهن وتنهيداتهنّ التي لمّ تَغب عن آذان الإنسانية للحظَة واحدة، تلك التَّرانيم المُصطَحبة بالقوة والعَزيمة كانت تُبعث بالسعادة والأمل لشروق شمسٍ جديدة، ولتَسرد ملحمة أخرى جديدة مِن ملاحم البطولة التي شهدتها وتشهدها الأرض المقدسة.

تِلك الترانيم كانت ترانيم الحقيقة ترانيم السلام والحرية الأبّدية على الأرض المقدسة التي شهدت بواكير الحضارات الإنسانية، هذه الأرض التي شهدت الثورة الزراعية الأولى وبواكير الفنون الإنسانية وعلومها وآدابها، الألاف من الفنانين والأدباء والشعراء تغنوا بهذه الأرض وقدسيتها وقدَّموا دماؤهم الطاهرة دون تردد أو تلكؤ في سبيل أن تبقى عبق أزهارها تفوح وتفوح…، ينابيعها تنبض وطيورها تُغرد، أبناء هذه الأرض لم يخذلوها قط.

ومزكين إحدى بنات هذه الأرض سارت على خُطى رفيقاتها في درب الحرية والبحث عن حقيقتها، ترانيم الأمهات حفظتها عن ظهر قلب فكانت قصيدة ولحناً غنتها مزكين الشهيدة (lo hevalno…)، تلك الفتاة التي بحثت عن الحقيقة إلى أن رست أقدامها على درب الحرية، حين ذاك وعّت على حقيقة المرأة والإنسانية، وعندئذ أدركت تماماً الثمن الذي يدفعه الكرد للأرض المقدسة.

صاحبة هذا الفن هي المرأة المقدسة أيضاً، ناضلت لتسرد حكاية هذه الأرض وأبطالها بصوتها العذب، ولتنشد بدورها ترانيم الثلج – الجبال -الوديان -الينابيع والزهور.

حقيقةً يتساءل المرء، كيف يُجسد الإنسان فنّه في حياته، وكيف يؤثر بفنه وإنسانيته على محيطه الاجتماعي؟.

ما أن تُقلِبَ الصفحات الأولى من تاريخ الحركة التحررية الكردستانية حتى تقع في غِمار الملحمة الكردية الأولى في تاريخنا المعاصر إنها ملحمة “أصدقاء الجبال حُمَاةُ الأرض المقدسة، وملائكة الحرية”.

في صفوف حركة التحرر الكردستانية حيث قدسية الصداقة تنبع من الصميم الإنساني، لدرجة تَسمو فوق كُلَّ الاعتبارات، هنا الشهادة قِيمَةٌ لا تعلوها القِيَم كونها نبراس الحقيقة، وذِكرى الشهيد في حمل رايته تقليدٌ مقدس، هنا يحمل المَرء في داخلِه عِشق الأرض وفي يده يرفع راية رفيقه الشهيد، هُنا يَصبحُ للتاريخ وللجغرافية معنىً آخر يختلف عن المتعارف عليه في عصرنا، الأبطال هم من يصنعون تاريخهم وكتبوه على صفحات ناصعة، وبأي مداد يكتبون؟َ!.

يتساءل المَّرء مرةً ثانية، عنِدما يقّرأ أو يَسمع عن هؤلاء، عن القيم والجسارة والإيمان والعشق الذي حملوه ودفعهم لتَحَمُّل بَرد قمم الجبال وحرارة السهول على الأرض المقدسة؟.

ربَما يُذهل ويتعجب المّرء للوهلة الأولى لكنه ينطلق في داخله نحو عالم الحقيقة ليبدأ بالبحث يغوصَ بعيداً في بحر الوجود عميقاً بطول قامات هؤلاء الأبطال.

هذه الحقيقة تتجسد واقعاً داخل حركة التحرر الكردستانية التي احتضنت آلاف الأبطال والبطلات، إحدى تلك البطلات رفيقة درب الشهداء بنت الأرض المقدسة مزكين، صوتها كان راية الشهداء صوت حرية المرأة، كانت تدرك جيداً الأضداد على أرض ميزوبوتاميا حيث الحرب والسلام البندقية والفن، يتعايشان جنباً إلى جنب، منحت بصوتها وبفنها بُعداً آخر لحركة التحرر الكردستانية التي تناضل وتحارب في سبيل هوية وكرامة ميزوبوتاميا حيث القيم الإنسانية وتاريخها.

مزكين بشجاعتها وبعمرها الصغير وقفت وقفة المرأة الكردية الثورية وفي خضم أشد المعارك التي كانت تُدار رحاها ضد جيش الطغاة وفي فترة كانت الحرب مستعرة دون هوادة.

مزكين وكما اسمها كانت بشرى التحرر للكرد المقموعين تحت نير الاستبداد، بصوتها الجبلي أيقظت روح الثورة والمقاومة في أعماق شعبها الذي استفاق على حرب الإبادة والإنكار.

مزكين الشهيدة التي أكدت على “أن كل شيء على وجه الخليقة يحمل في داخله صبغة فنية، وهي التي تهب للحياة معانيها كما الحرية”، لذا فالمعرفة الأولى للإنسان انطلقت مع الفن، وهُنا فإن الفنان عليه أن يحمل الفن في داخله، وبنفس الوقت عليه أن يرى أحاسيس الناس ومشاعرهم، عليه أن يكون على معرفة تامة بثقافته ومرتبطاً بأرضه، وعلى تماسٍ تام مع شعبه وقضاياه الإنسانية، وهنا يُمكن أن يكون الفنان فناناً.

مزكين كانت رمزاً لقيادة ثقافة المرأة “ثقافة الأم” الباكرة التي شهدتها أرض مزوبوتاميا، الفن (huner) في اللغة الكردية تبطن قوة روحية ليس فقط الظاهر الجميل، المشاعر تنبض، والأحاسيس تتجيش، ويتبادر إلى الذهن دون استئذان وبشكلٍ لا إرادي الملاحم البطولية وقدسية الأرض، وصوت مزكين فنٌ كردي يبعث في داخل الإنسان الحرية والسلام ويختلج بالأحاسيس الوطنية، لتروي الذاكرة قصة رفاق الجبال. مزكين في ريعان شبابها أدركت حقيقة الأرض المقدسة ومدى تدنيس الطغاة لهذه الأرض، أنهم استباحوا قيم الإنسانية وشوهوا تاريخ المرأة ومارسوا ضدها شتى أشكال الاستعباد والاستبداد، من هنا تبدأ مزكين مسيرتها في البحث عن الحقيقة وتسلك مسيرة رفيقاتها في معرفة تاريخ المرأة وتضع بنضالها وبفنها بصمتها في تاريخ الحركة التحررية الكردستانية، وفي تاريخ نضال المرأة الكردستانية المناهضة للسلطة الأبوية الذكورية القاهرة للطبيعية وللمرأة والتي تستعبد الشعوب وتبيد الثقافة الأصيلة.

في مضمار البحث عن الحقيقة ومقاومة الاستبداد والذل تبدأ مسيرتها النضالية الفنية الثورية، وهي التي كانت تقول: “لا يمكن المضي من دون الثورة”. (كان لها دور القيادة في تأسيس “اتحاد المرأة الوطنية الكردستانية” yjwk ê).

جسدت مزكين في نفسها مثال المرأة الثورية والرفيقة المخلصة لدماء رفاق دربها عكيد ومظلوم… ورفيقاتها الشهداء، فكانت الفنانة والمقاتلة والقيادية ورمزاً من رموز نضال المرأة.

مزكين كانت تَكبُرُ عمرها وهي التي ترعرعت في منطقة “إيله” جزيرة بوطان الثورية في شمال كردستان أنهلت من ثقافة وأخلاقيات الثورة وهي التي تشبعت بالثقافة الشعبية الكردية.

تميزت بشخصية مؤثرة على محيطها ورفاقها خاصة في فرقة برخدان (koma berxwedan) الشعبية التي كانت محطة فنية وثورية هامة في مسيرتها وفي مسيرة الشعب الكردي عامة.

ماذا يقول رفيق درب الشهيدة مزكين في koma berxwedan خليل غمكين في خصالها:

يقول الفنان الثوري وأحد القامات الكبيرة في فرقة برخدان (koma berxwedan) خليل خمكين، في إحدى كتاباته ومذكراته عن الشهيدة مزكين: “أجل يا رفيقة الدرب ستبقين زهرة فرقة برخدان، حتى وإن كان مكانك بيننا مازال يهيمن عليه الفراغ، لكن رفاقك الذين تأثروا بك من صميم قلبهم لايزالون مرتبطين بالروح الثورية والنضالية التي أكسبتِها لمن حولك، أتذكر جيداً أنني تعرفت على الشهيدة مزكين للمرة الأولى في 1/12/ 1985 في مدينة “مناهيم” الألمانية، كانت شابة قوية الإرادة والجسارة لدرجة  كانت تكبر عمرها كثيراً!، بالطبع الكثير من رفاقنا ومن أبناء شعبنا تأثروا بها وارتبطوا بنضالها، جميعهم كانوا يدركون بأن هذه الفتاة التي تكبر عمرها بنضالها، كانت قد تشبعت بالثقافة الثورية وتحمل قيمٍ أخلاقية ثورية عالية لذا فأن شخصية كالشهيدة مزكين تحمل في جوهرها الثقافة الشعبية، ومن صميم هذه الشخصية كانت تؤثر على محيطها الاجتماعي، ومن منطلق هذه الشخصية الثورية وبقيمها العالية وبأسلوبها وسلوكها الأخلاقي النبيل كانت تخطو في حياتها وكأنها كانت تقول دائماً: “أيا شعبي إن ما عليه شخصيتي الآن هي نِتاج هذه الثورة التي نعيشها، أنا المرأة الكردية الحُرَّة المنبعثة، أنا من فجر هذه الثورة، لقد أنهلت من ثورة القائد آبو…”.

لم تكن تعرف الاستسلام أو الركون قط، كانت سريعة الخُطى في البحث عن الحقيقة، الشهيدة مزكين وعلى مدار 3- 4 سنوات كانت تدير نشاطات وفعاليات مركز  (huner kom) للثقافة والفن، وفي أصعب المراحل وبتلك الإمكانيات والفُرَص البسيطة والمحدودة جداً، لقد كُنّا مجموعة من الرفاق نتقاسم كل تلك الصعاب والأعباء، تلك الشخصية كانت تحمل في صميمها الكثير من التغيير على الصعيد الفني والتوعية الاجتماعية، كانت ذات عزيمة صلبة الإرادة كالحديد المصقول بالفولاذ، جُل قوتها المعنوية والنفسية كانت مرتبطة بعشق الثورة وطبيعة الجبال، في ذكرى الشهيدة مزكين يمكن القول بأنها كانت شخصية فذة مكملة، لدرجة كانت تطغى على خصوصيتها الفنية الباهرة..).

بالطبع كُلُّ من تعرَّف عليها من الرفاق وناضل إلى جانبها قد تأثر بشخصيتها واكتسب العديد من الخصال القيّمة، حقيقة عندما أبحث عمَّا حولي عن نضال المرأة الكردية تستحضر ذاكرتي شخصية الشهيدة مزكين، تلك الشخصية التي مثلت حقيقة المرأة الكردية المتوازنة والمناضلة، كنت على مسافة قريبة من نضال الشهيدة مزكين ونشاطاتها في مجال توعية المرأة، وكنت الاحظ  كيف كانت تجدد قيم المجتمع وتعمل على تغيير الذهنية الرثة بالحس والشعور الوطني، لقد كانت تطهر العقول  بالأخلاق والقيم الثورية، وما نلاحظه في مرحلتنا الراهنة من التقدم الكبير الحاصل على شخصية المرأة الكردية، هو نتاج نضال طويل ومستمر وشاق.

المرأة الكردية باتت شخصية متعلمة وواعية ومكافحة ومقاتلة وباتت لها مكانة عليا ليس فقط على مستوى الشعب الكردي بل بين جميع الأمم والشعوب الأخرى، وهذا بالطبع بالنسبة لنا موضع فخرٍ واعتزاز، حقيقةً كانت مزكين تلك الشخصية المبدعة للأفكار وبقيمها وفكرها ومعرفتها الواسعة كانت تُكسب الناس حولها، وهذا بالطبع نتاج فكر وفلسفة القائد عبدالله أوجلان ومن مبادئ وسياسة ثورة التحرر الكردستانية جسدتها  شخصية الشهيدة مزكين، لقد كانت تمثل تلك السياسة الصادقة والحقيقية طيلة نضالها، لدرجة يصعب على المرء وصف هذه الشخصية المتوازنة في كل جوانبها.

مزكين كانت شخصية تُلهم المرء لدرجة لو أستجمع  كل طاقته الفلسفية والفكرية واستجلب كل ما في أعماقه الإنسانية من ضميرٍ ووجدان ربما لن تفّي في وصف وتقييم خصوصية من خصوصيات تلك الشخصية الثورية شخصية المرأة الكردية الأصيلة، بجملة واحدة يمكن القول: “لقد تمكنت مزكين بقوة إرادتها من أن تمثل حقيقة فلسفة ثورة الحرية، وبها أصبحت منبعاً للقيم والمعنويات”.

ويتابع غمكين في القول: بالنسبة لي وكرفيقة فقد كانت مثالاً للصداقة الأصيلة.

أخر عمل مشترك بيننا كان في شهر أيار/ مايو سنة 1987، وبعد تحضيرات طويلة لإنجاز ألبومين، الألبوم الذي كنا نعمل عليه من أجل ذكرى الشهيد عكيد وكان بعنوان (Ey botan) وألبوم (kûla cîhanê) كان هذا العمل المشترك الأخير بيننا في فرقة برخدان.

كانت الظروف المادية صعبة للغاية، لكن أجواء السرور والبهجة والعنفوان لم تكن تفارقنا قط، كنّا نستمد منها الكثير من المعنويات، ونثابر في العمل الفني الثوري، وبعد فترة قررت الرفيقة مزكين أن تعود إلى الوطن حيث كانت حركة التحرر الكردستانية تقارع العدو، واشتد ضغط قبضة الأعداء على منظمة حركة التحرر الكردستانية في أوروبا صيف 1987وكان له تأثير على نشاطاتنا السياسية والاجتماعية والفنية، بالطبع كان المستهدف في المقام الأول مركزنا والرفيقة مزكين”.

تغادر مزكين أوروبا تاركةً أثراً كبيراً على كل رفاقها في فرقة برخدان وعلى كل من تعرف عليها من أبناء شعبها هناك، وتعود إلى ساحة المعارك في شمال كردستان، وبعد مرحلة حافلة بالنضال والكفاح تستشهد مزكين في منطقة “تتوان” وتلتحق برفاق دربها عكيد ومظلوم وصفقان والمئات من فدائيّ الحرية.

مسيرة حياتها وشهادتها على الأرض المقدسة ملحمة جديدة أضيفت إلى ملاحم رفاق الجبال.

إعداد: دوست ميرخان

زر الذهاب إلى الأعلى