دراسات

في ثورة 19 تموز- أين أصبنا وأين أخطأنا

ملخص تنفيذي

الثورة ظاهرة اجتماعية تعكس صراعات بنيوية عميقة تهدف إلى التخلص من الشكل القديم أو السائد وتطرح أنموذجا جديدا من خلال- فلسفة وأيديولوجية معينة تعكس التغيير المراد تغييره، والتحول الذي يطرأ؛ انعكاس لسياقات فلسفية يستند إليها الفعل الثوري، فلا يمكن الحديث عن ثورة في ظل غياب فلسفة أو فكر ثوري يستند إليها الفعل الثوري ويسندها في الوقت ذاته، هذه كانت حال الثورة الفرنسية التي ابتدأ بها العصر الحديث وأحدثت تحولا في المسار التاريخي بفضل الفلسفة الروسوية وكذلك التنويريين الذين صنعوا الثورة ومهدوا لها وجعلوها مستمرة، ليس مغالاة عندما نقول أن عدد مفكري الثورة الفرنسية ضاهوا عددا الفئات الشعبية المشاركة في الثورة نفسها، والحال عينه بالنسبة للثورة البولشفية التي اعتمدت فلسفة عميقة هي الماركسية الممهورة روسياً؛ على أيدي اللينينية وإلى أرض القياصرة، ولولا مادية فيورباخ وجدلية هيغل ونفي النفي الماركسي لما استطاعت البلاشفة اعلان الثورة ونجاحها، رغم أن الفارق كبير بين الثورتين؛ من حيث أن الروسية ومحدثي ثورتها كانوا أقل سوية في الفكر والممارسة الثورية من مضطرمي الثورة الفرنسية، وهذا لا يكون الفيصل في الثورات، وإنما الفكر الثوري التغييري هو الأساس فهو الأصح.

وفق هذه الحتمية بأن لكل ثورة فلسفة ثورية تسبقها وفكر ثوري يحضر للعمليات التغييرية والتبدلات النوعية في المجتمع الثائر؛ وفق هذه الحتمية – أيضاً- لا يمكننا الحديث عن وجود ثورة في اليمن أو ثورة في ليبيا أو ثورة في تونس أو ثورة في مصر أو ثورة في سورية، وكل ذلك بسبب غياب البنية التحتية للثورات ومحركها الأساسي أي الفكر الثوري، وإن لم تكن ثورة فما هي إذن؟ هي تمردات شعبية وحراكات ثورية لم تستطع الوصول إلى فعل الثورة، والنيران التي تطايرت على أرضي الربيع العربي؛ لم تحدثها فلسفة أو فكر أو أيديولوجية ثورية أو فلاسفة ثوريين؛ إنما شعب استطاع أن يكسر جدار الخوف ويكسر الأغلال الكثيرة المتكونة، لكنه في النهاية، وبعد أن وجد نفسه بلا قائد ومفكر ثائر، ربما سلمها لمستبدين جدد ألبسوهم قيودهم مرة أخرى، ومن المؤكد أن شعب الربيع لم يستأذن من أحد ولم يتواصل مع أحد حينما ثار، أي قيام الشعب الثائر لم يكن بعلاقة مع الحوكمة العالمية وكومبرادوره الإقليميين، فيما بعد؛ حدث ارتباط على أساس حديث التعصب والتدين السياسي وحديث النفط والغاز، وحديث إعادة تجمع حشود الإرهابيين وزجهم في المشهد الثائر وتحويل الجموع الثائرة إلى مجاهدين أو مهاجرين نحو الشمال أو مرتدين إلى صدور الاستبداد المحلي القديم، والحديث عن عدم وجود فلاسفة في الربيع العربي لا يعني انتفاء فلاسفة أقحموا في المشهد فيما بعد؛ في أحسن أحوالهم كانوا يتكملون عربية مُكسرة.

والحقيقة في هذه التراجيديا الشعبية؛ حقيقة توازيها وتعزيها وهي الأكثر وضوحا؛ (نهج الخط الثالث) في البوتقة الجغرافية السورية (روج آفا)، بما  استطاعت لوحدها بشكل متميّز أن ينطبق عليها فقط فعل الثورة الشعبية لأنها لم تكن لوحدها ولم تُترك بدون رأس وفلسفة ثورية، الثورة من أجل المجتمع الديمقراطي الأيكولوجي المتحرر جنسوياً. ثورة روج آفا التي وجدت لنفسها محلاً: اختلفت بل خالفت الرؤى السائدة السلطوية، لم تكن لهذه الثورة علاقة مع السلطوية المستبدة والمعارضة السلطوية في الوقت نفسه، ولكن؛ وبسبب الفكر الفلسفي (الأوجلاني) الممتد لأكثر من ثلاثين سنة ممتدة؛ ساهمت متفاعلة مع الحراك الثوري العام (الشرقي- السوري) واستطاع متبنيو هذه الفلسفة وفي 19 تموز 2012 إحداث تغيير مجتمعي ( مزدوج) مرةً كحل للقضية الكردية وفي الوقت نفسه بمثابة النهضة الشرقية وشعوب الشرق من هذه النهضة هي الأساس وإعادة دور الشرق الحضاري أكثر، من خلال فلسفة الأمة الديمقراطية. والذهنية الثورية التي أحدثت انقلابا في الذهنية المتخلفة والتي اعتادت السير بِمُسيِّرٍ وذلك بسبب انتفاء طاقة الكوانتوم التي لم تلاحظها بدوره ولم تنتبه لها في أية لحظة.

تم قراءة الموقف بداية، وتم رفض أن الحراك الثوري في سوريا والتمردات الشعبية يجب أن تكون مقتصرة فقط أمام الجوامع وحدها، لا بد أن تكون معممة في المعاهد أيضا والمدارس وكل الدور حتى تكون الأدوار الاجتماعية أكثر توازنا؛ وهذه من الناحية العملياتية؛ أما من ناحية الفلسفة الثورية فقد التزمت الثورة بأن اشتعال نار الثورة لا بد أن تكون وفق الزمان والمكان الأكثر مناسب؛ لإحداث التغيير وإعادة ردم الهوات المتكاثرة وأهمها ما يخص مسألة التحاجز المجتمعي؛ فالبديل الثوري لهذه المشكلة هو إعادة تنظيم المجتمع في روج آفا لمآل العيش المشترك، فكانت الإدارة الذاتية الديمقراطية والنضال المشترك (كرديا- عربيا – سريانيا) وكان هذا بداية المشهد بعكس ما كان يحدث تماما في أنحاء سوريا الأخرى، وفي التاسع عشر من تموز عام 2012 وفي كوباني تحديدا وبسبب قوة العقل الجمعي وبسبب قوة قضية الحرية التي اعتنقها الشعب الكردي وطليعته الثورية المتمثلة بحركة الحرية الكردستانية، استطاع الشعب الثائر أن يحد طيلة السنوات التي تعرض فيها للإبادة الثقافية والظلم الطبقي والقومي وقبلهما الحاقه مرغماً بخرائط ودساتير جديدة لم تكن يوما هي الخريطة وهي الدساتير التي اعتقد بها. فكانت الثورة ، لكن ما هي أسبابها؟

أسباب ثورة 19 تموز

1- الأسباب السياسية

لا يمكن الفصل بين عدم حل القضية الكردية في سوريا وبين قضية الاستبداد السلطوي وبين مسألة تشكل سوريا بعد تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات؛ تم رسمها من قبل الاستعمار الحديث عبر اتفاقية بين الدول الاستعمارية بعد مرض ومن ثم احتضار رجل أوربا العجوز/ تركيا، الوشائج مترابطة يصعب فكفكتها دفعة واحدة، ومن المؤكد أن الواحدة منها أفضت إلى الأخرى، ومن المهم الوضوح في مسائل ارتباط الاستبداد بمُحدثيها. لا بل وتداعيات الاستبداد في كل مفاصل الحياة وخاصة بغياب التمثيل السياسي للشعب السوري وقدرته على مواكبة الحدث وتأصيل سورية كشخصية اعتبارية في الأسرة الدولية، مما ساهم في غلو المستبدين ومصادرة القرارات السياسية وفرضها على الشعب السوري وانهاء كامل للحياة السياسية وتمترس السلطة الأمنية في ظل احكام الطوارئ والقوانين/ مراسيم استثنائية. وعندما نقول أن سوريا لم تتحرر حتى اللحظة؛ رغم اعلان استقلالها في منصف أربعينيات القرن المنصرم. هذه النتيجة لها كل العلاقة بعدمية التمثيل السياسي الحقيقي للمكونات المتألف منها سوريا؛ والكُرد كشع وكحقيقة تاريخية جغرافية سياسية من أهم هذه المكونات، والتي طبقت بحقهم سياسات اقصائية مرعبة تمثلت بمشاريع عنفية ممنهجية تصيب كينونة الكرد، أهمها: مشروع الحزام العربي الذي قدمه ضابط في الاستخبارات العسكرية و لم يرقه المشهد الحقيقي الديموغرافي في روج آفا فأراد تعريبها وفصلها من خلال مستوطنات تم استقدام آخرين (عرب الغمر) لملئها، ومشروع لا إنساني آخر هو مشروع الاحصاء الاستثنائي والذي تم جرد أكثر من مائة ألف من الكرد من جنسيتهم السورية؛ معظمهم من أنهى الخدمة العسكرية السورية.

ورغم أن الكرد والمكونات الأخرى التي رفضت هذه المشاريع ورفضت سياسات الأنظمة المستبدة في سوريا، والتي زجت – من خلال رفضها- في السجون حتى امتلأت وفاضت. السياسة المستبدة كانت مطبقة على كل السوريين وعلى الكرد بشكل مزدوج، والكرد حاولوا مع الشركاء الآخرين من أجل قضية الحرية في سوريا التي تحولت إلى سجن كبير، وانتفاضة 12 آذار 2004 كانت أولى مشاهد الرفض الحقيقية للاستبداد وبالتأكيد كانت أحد المساهمات النوعية في التأسيس للحراك الثوري السوري عام 2011، وبينهما وتحديدا في العام 2006 التزم حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بفلسفة الأمة الديمقراطية والتي تعتبر فلسفة نهضوية – جمعية، لا تقتصر على الكرد وحدهم بل على المكونات السورية كلها، رغم أن الدور الريادي في مسألة التغيير ستكون ملقاة على الكرد أكثر، فقضية الحرية وقضية العقل الجمعي هما معياري التحول والتغيير في سوريا، ومشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية حققت حتى اللحظة- رغم قصر زمنها- مسألة متقدمة من التمثيل السياسي ولكل المكونات في روج آفا، وهي ترفض الاستعلاء القومي والنظر إلى مسألة التحرر المجتمعي من وجهة نظرة الفئوية القومية والتسلط القومي الواحد، الإدارة الذاتية لا تماهي جلادها التي ثارت عليه، وإنما تحاول رفع وتمثيل الإرادة المجتمعية الكلية.

2- الأسباب الاقتصادية

لثورة 19 تموز أسباب ودواعي اقتصادية أيضاً؛ إحدى الخصال المميزة في الثورة الاجتماعية هو إنشاء اقتصاد تشاركي تحرري يقوم على التنسيق بين اتحادات أفقية ولامركزية للتعاونيات الزراعية والصناعية. وهذا ينشأ عبر عملية نزع وإزالة المشاريع المطبقة الواسعة على مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، ورفض النظر إليها أنها مناطق نائية؛ علما أن نسبة مساهمة مناطق الإدارة الذاتية في سوريا لا تقل عن 45% خاصة المتعلقة بمجالات النفط والزراعة، مما يستدعي على الإدارة المتشكلة حديثا بإعادة جمعنة وسائل الإنتاج وأدواتها، واحداث قطيعة اقتصادية مع السياسات الاقتصادية التفقيرية المعادية للديمقراطية والقديمة المطبقة بحق مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية وشعبها، وبالرغم من الحرب التي نشهدها وبالرغم من أن الحصار على أشده، إلا أن بعض من الخطوات القيّمة- الاقتصادية تم تحقيقها، وخاصة في مجال المحروقات و بناء بعض من المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة وبعض منها قيد التنفيذ.

إن المضمون الإنساني للنظام الاقتصادي في الإدارة الذاتية الديمقراطية بصفتك إنسان ذو اختصاص أو مهنة ليس بالضرورة أن تهاجر إقليمك إلى منطقة أخرى، بحثا عن فرصة عمل، بل يجب وبناء على الخطط الاقتصادية التي تضعها الإدارة الذاتية أن تحصل على عمل مناسب في إقليمك مباشرة، حيث يؤمن لك و من خلال تلك الفرصة مستوى لائق من الحياة البشرية.

3– الأسباب الاجتماعية

نعتقد أن المجتمع السوري تم تقسيمه إلى طبقتين متفاوتتين، الطبقة العليا ( فئة الاستبداد) التي تضم زمرة الاستبداد واستطالاتها في المجتمع السوري العام؛ وكانت لهذه الزمرة أنها تميزت بما يشبه بالاستبداد الفيودالي والتي تحكمت بمصائر الشعب السوري من خلال استبداد ممنهج، وهؤلاء أعتقد أنهم لم يتجاوزوا نسبة 1% من عموم الشعب السوري، الطبقة المُستبدَة (بفتح الدال)، وهذه بحد ذاتها مجموعة من الفئات تم تحاجزها وابعادها عن بعضها بل ومعاداتها للآخر، عدم قبولها للآخر؛ رغم وحدة جهة الخطر؛ تم احداث تفككا اجتماعيا ظاهرا ونابذا، الكل يشككك بالكل ولايستطيع العيش معه، وحتى ضمن الفئة الواحدة استطاع نظام الاستبداد أن يخلق المزيد من الفجوات بينها ويخلق أنواعا متقدمة من التنافر المجتمعي، وهذا ينجم عن الفكر الأحادي الجانب الذي اعتمدها بؤر الاستبداد من أجل تبدي الهوية الوطنية وخلق مشكلة انكفاء الذات المجتمعية، ولا شك كانت ظواهر الاستبداد تنتقل عبر استطالات تم خلقها وأدت إلى تشكيل ظاهرتين مخلتين في المجتمع السوري:

آ- تراجع دور المرأة العام بسبب السلطوية الذكورية، وابعادها قسرا عن الوظائف المترتبة وتقويض دورها في بناء المجتمع، وخاصة أنها تمثل حقيقة أكثر من 80% من المجتمع السوري وفي روج آفا أيضا( تشكل نسبة المرأة وحسب إحصاءات دائرة الأحوال المدنية في سورية عام 2010 أنها تمثل 54% من مجموع السكان؛ بالإضافة إلى إشرافها المباشر على الفئة العمرية الممتدة من عمر اليوم إلى عمر فئة السادسة عشرة وهؤلاء يشكلون بما لا يقل عن 30% من مجموع السوري العام).

فأولى ما ابتدأت بها ثورة 19 تموز هي إعادة تنظيم المرأة وتدريبها وتعريفها لهويتها ودورها الحقيقي في البناء المجتمعي سواء في مجال الدفاع المشروع وتأسيس المنجز التاريخي وحدات حماية المرأة ودورها التاريخي في الدفاع عن روج آفا كواجب من واجباتها، وأيضاً المتعلق بتأسيس عشرات المؤسسات التي تعني بشؤون المرأة في مجالات السياسة و الثقافة والاجتماع، والعقد الاجتماعي الذي تشكل وفقه الإدارة الذاتية الديمقراطية يضمن حقوق المرأة ويضمن نسب تمثيلها في الحياة السياسية والإدارية في الإدارة الذاتية نفسها وبنسبة 40% في البدء منتقلة اليوم إلى 50%؛ علما أن ألمانيا كانت المبدوءة في ترسيخ هذا الحق ولكن بنسبة لم تتجاوز 33%.

ب- اقصاء فئة الشباب من الحياة العامة السورية، واستبدادهم من قبل العجزة والمسنين وتحت حكم الأبوة البطركية في الاجتماع السوري العام، وابعادهم أيضا عن تمثيلهم في الحياة السياسية، وبالتالي حصار الدور الشبابي ومنعه في البناء المجتمعي، هذه المسألة بالإضافة إلى كل مظاهر القمع ضد هذه الفئة الديناميكية أحدثت خللا مجتمعيا، فكانت ظاهرة البطالة لدى هذه الفئة تتزايد يوم بعد يوم دون أن تعالج. وما فعلته ثورة 19 تموز ووفق خطط استراتيجية يتم من خلالها تنظيم الشبيبة في المجتمع باعتبارها الإطار الأكثر فعالية وتحقق المساهمة في بناء المجتمع السياسي والأخلاقي، وكانت من أهداف الثورة خلق تنظيم شبابي لتطوير السياسة الديمقراطية وترسيخ مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية ولكل المكونات في كانتون الجزيرة، وضمان مشاركة نوعية لها في الإدارة المتشكلة وهيئة الشباب والرياضة كانت من أبرز هذه الإنجازات من أجل القيام بدورهم الطليعي في المجتمع، والوقوف بحزم أمام الذهنية السلطوية باعتبارها مصدر البلاء للشعوب في الشرق الأوسط والشعب الكردي جزء من هذه الشعوب، ويهدف تنظيم الشبيبة ومن خلال الذهنية الثورية إلى اعادة بناء التنظيم الشبابي من الأسفل إلى الأعلى، وضمان لعب دور الطليعة الثورية على مبدأ التشاركية والقرارات بين كل التنظيمات الشبابية.

مراحل ثورة19 تموز

كما هو معروف أن الثورة و الفعل الثوري وفي كل الثورات العالمية تأخذ فترة زمنية تطول وقد تقصر، ولكن من المهم الإشادة أن الثورات لا يمكن إنجازها وإنجاز مهامها إلا وفق مراحل، فإذا ما لاحظنا أن الثورة الفرنسية احتاجت إلى عشر سنين حتى استوت عندها الوجهة (يعتقد الكثير بأنها لم تستوي بل تم عسكرتها أيضاً)، والثورة الروسية أكثر من سبعة سنوات، والفيتنامية حوالي اثني وعشرين حولاً، والحال نفسه في ثورة روج آفا الشعبية؛ ثورة 19 تموز والتي بدأت في كوباني وانتقلت إلى عفرين والجزيرة، ولا زالت هذه الثورة مستعرة النيران حتى تحقيق أهدافها، وثورة روج آفا هي في نهاية المرحلة الثانية – كما أعتقد- وبحسب المقارنة التالية بين الثورة الفرنسية وثورة روج آفا، نستشف من خلالها بدايات التنبؤ للمراحل الواصلة إليها والمرحلة التي ستقبل عليها ثورة 19 تموز.

دامت الثورة الفرنسية عشر سنوات، ومرت عبر ثلاث مراحل أساسية:

  • المرحلة الأولى في الثورة الفرنسية: 1789-1792، فترة الملكية الدستورية: تميزت هذه المرحلة بقيام ممثلي الهيئة الثالثة بتأسيس الجمعية الوطنية، واحتلال سجن الباستيل، وإلغاء الامتيازات الفيودالية، وإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع أول دستور للبلاد.

* المرحلة الأولى في ثورة 19 تموز: ( مرحلة التأسيس) 2012- 2013: تميزت هذه المرحلة بالتأسيس للسياسة الديمقراطية التي نشأت كأول منجز عن النهج الثالث، وكانت أولى إنجازاتها تحرير أغلب مناطق روج آفا، والتأسيس للإدارة الانتقالية لملء الفراغ الناشئ عن تحرير وانسحاب قوات النظام من غالبية مناطق روج آفا، بالإضافة إلى تنظيم المجتمع وفق مؤسسات وأبرزها مؤسستي الآساييش وال YPG ومن منطلق حق الدفاع المشروع، مع العلم أن الكثير من التنظيمات الحزبية الكردية كانت لها موقف مغاير من بناء هذه المؤسسات( آنذاك).

  • المرحلة الثانية في الثورة الفرنسية: 1792-1794 ، فترة بداية النظام الجمهوري وتصاعد التيار الثوري حيث تم إعدام الملك وإقامة نظام جمهوري متشدد.

* المرحلة الثانية في ثورة 19 تموز)مرحلة التوازن) وابتدأت هذه المرحلة بالتأسيس للعقد الاجتماعي ويعتبر العقد بمثابة وضع أول دستور في تاريخ سورية وروج آفا وتم صياغة العقد على يد لجنة متخصصة في السادس من أيار 2013 و انتهت في 24 تموز 2013 وكانت بمثابة المرحلة الأولى والأساسية في وضع العقد الاجتماعي، والتي تمت متابعتها من خلال لجنة تمخضت عن مؤتمر يضم المكونات الثلاثة ( كرد- عرب- سريان) في أكتوبر تشرين الأول 2012، وتتميز المرحلة الثانية بالإعلان عن الإدارة الذاتية الديمقراطية في 22 كانون الثاني 2014، وتشكيل إثنان وعشرون هيئة من بينهم الخارجية والعلاقات الديبلوماسية والدفاع والحماية الذاتية بالإضافة إلى مجموعة من التشريعات والقوانين التي تنتظم وتنظم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. المرحلة الثانية أعتقد أنها ستمتد حوالي السنتين؛ أي ابتدأت مع اعلان الادارة الذاتية الديمقراطية و انتهت في أواسط 2016، حيث سيتم التحضير للمرحلة الثالثة والأخيرة / مرحلة تأسيس الحكومة المحلية لشمال وشرق سوريا. أمّا الإعلان عنها بشكل رسمي فيتوقع أن لا تتعدى العام 2018.

  • المرحلة الثالثة في الثورة الفرنسية: 1794-1799 ، فترة تراجع التيار الثوري المؤسس من قبل( مونتسيكيو- فولتير- روسو) وعودة البورجوازية المعتدلة التي سيطرت على الحكم ووضعت دستورا جديدا، وتحالفت مع الجيش، كما شجعت الضابط نابليون بونابارت للقيام بانقلاب عسكري ووضع حدا للثورة وأقام نظاما ديكتاتوريا توسعيا متجها إلى الشرق الأوسط واحتلال كلا من السودان و مصر.

* المرحلة الثالثة في ثورة 19 تموز (مرحلة النهوض)  بدأت في العام 2016 وتنتهي في العام 2020؛ حيث سيتم الانتهاء من آثار الحرب التي شهدتها مناطق الإدارة الذاتية والآثار المدمرة في تهجير مناطق بأكملها من قبل العدو المستحدث ( داعش) والمدعوم من سلطات الاستبداد في الأجزاء المقتسمة لكردستان، في هذه الفترة ستتوضح معالم ثورة روج آفا بشكل أكثر وضوحا، وسيتم التأسيس لمرحلة الاقتصاد الديمقراطي الذي سيمتد بدوره لمدة خمس سنوات على الأقل ويتم بعدها للتمهيد لمرحلة الاقتصاد التشاركي، وستشهد هذه الفترة بعكس الثورة الروسية أو الثورة الفرنسية أو الثورات العالمية الأخرى صقلا لنهج الفلسفة الثورية – فلسفة الأمة الديمقراطية، لأن ثورة 19 تموز لم تقم من أجل قومية واحدة وأن كان الكرد ولا يزالون لهم الدور الريادي في قيادة وتحريك ودفع هذه الثورة، وبالرغم من أن حل القضية الكردية هي من الأسس السليمة للإدارة الذاتية؛ لن تكون هذه الثورة سلطوية، فمجرد أن تكون الثورة خادمة لفئة معينة تتحول مع الزمن إلى مستبدة كما حال الثورة البولشفية التي ركزت على ديكتاتورية البروليتاريا، وعلى المركزية السياسية بؤرة التسلط وسبب السقوط المدوي للسوفيات، بعكسها تماما فإن ثورة 19 تموز هي للكرد والعرب والسريان الآشور، والمسائل التي قامت من أجلها الثورة تتوضح معالمها بخطوات عملية أكثر فعلية؛ من أهمها اختيار الحاكم المشترك لمقاطعة الجزيرة، وعد اللغات الثلاثة لغات أساسية في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية ، والكثير من هذه الخطوات بدأت تسهم بقبولها وتأييدها من المحلي السوري والإقليم والعالم، رغم محاولة التشويه والتقزيم الصائر إليه من قبل بعض من الفئويين والمتحزبين والقومجيين: كردا أو عربا أم سريان، وأعتقد أن وجود هذه الزمر الضالة وأغلبهم كانوا يوما من مرددي الشعارات الثورية وتحت عباءة اليسارية والشيوعية، ها هم يتفقون والنصرة وتنظيمات مسلحة مصرين أنهم (الثوار) وغلاة القومويين الناكرين للقضية الكردية، هؤلاء الواقفين في الجهات الخاطئة لهم خيارين: إما العودة إلى كنف الخيمة الوطنية التحررية المتمثلة في الإدارة الذاتية الديمقراطية وإما بقائهم المعاند في الظل، وهؤلاء سوف يحاكمهم الشعب الثائر الذي لن ينسى من هرب من روج آفا وآثر البقاء بعيدا عن روج آفا في زحمة الثورة واصرارها على التحول الديمقراطي والتغيير المجتمعي.

أين أخطأنا؟

في الثورات لا يمكن الحديث عن المكتسبات والإنجازات فقط، هناك الكثير من الأخطاء التي ترتكب لا بد من التركيز عليها والقيام بوضع الحلول لها حتى لا تتحول إلى معوق آخر ضمن المعوقات التي تتموجد بفعل (الحاءات الثلاثة الموجودة أصلا: الحرب والحصار والحرب الخاصة)، علما أن المعوقات الناجمة من الأخطاء المرتكبة وفي حال لم يتم حلها ومعالجتها؛ ربما تكون أشدا خطرا عن الحاءات الثلاثة المذكورة، وبطبيعة الأمر؛ أن نهج حركة الحرية الكردستانية تعتبر أحد مرتكزاتها التجديدية هي النقد، و ليس هناك من هو أرفع شأنا من النقد والنقد الذاتي، وأعتقد- هنا- أن أهم هذه الأخطاء؛ هي:

1- لم يتم العمل وبالشكل الثوري المطلوب شرح فلسفة الأمة الديمقراطية وشرح ماهية الإدارة الذاتية الديمقراطية القائمة؛ على المستوى الشعبي في روج آفا، ورغم الندوات التي قام بها حزب الاتحاد الديمقراطي لكن اقتصار هذا المنحى على الحزب دون سواه أعطى لمجموعات سد الذرائع ؛ حجج يخالفوا – من خلالها- الوقائع؛ بأن الإدارة متبوعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا مناف للحقيقة بالرغم من أنه صاحب المشروع ومنذ العام 2006.

2- أيضا في هذا السياق؛ لم تستنفر كافة أحزاب الإدارة الذاتية وشخصياتها ومؤسساتها الجهود المطلوبة في إيصال جوهر فلسفة الأمة الديمقراطية إلى وسائل الميديا العالمية والإقليمية والمحلية، بقيت الجهود متواضعة واقتصرت على الفئات المقتنعة أساساً بحل الإدارة الذاتية الديمقراطية للقضية الكردية وللأزمة السورية، وتحقيق العيش المشترك من خلال سوريا الاتحادية الديمقراطية في نموذج الإدارات الذاتية الديمقراطية.

3- رغم القانون الصادر عن المجلس التشريعي للإدارة الذاتية الديمقراطية في نيسان 2014 والمنصوص بمحاربة الفساد، لكن الخطوات في هذا المنحى كانت أكثر تواضعا ولم ترتقي إلى حل ثوري لهذه المسألة المصيرية، وبالرغم من أن الفساد ظاهرة اجتماعية متجذرة في التاريخ البشري وهي موجودة في كل المجتمعات والأنظمة العالمية، لكن هذا لا يبرر ظهور بعض من المظاهر المخلة وبعض من مظاهر الفساد الناشئة والتي يجب القضاء عليها ومحاسبة مروجيها، وهي بالتأكيد أحد معالم الخطر في وجه الإدارة الناشئة؛ إذا ما تركت دون محاسبة، وعلينا جميعا ورغم الظروف الاستثنائية التي نمر بها من حالات الحصار الخانقة وحالات الحرب الشرسة، أن نقف وبمسئولية ضد هذه الظاهرة التي تهدد بنيان المجتمع في الإدارة الذاتية الديمقراطية.

4- الكومين؛ وبالرغم أنها تمثل نواة الأمة الديمقراطية، لكن لم يتم تنظيم مجتمع روج آفا وشمال شورق سوريا في المدن والأحياء و البلدات والقرى وتنظيمها في كومينات فاعلة؛ متخصصة بالمجالات: الخدمية، الصحية، السياسية، الاجتماعية. إن انتظام المجتمع رغم اختلافاته الفكرية وتوجهاته السياسية في كومينات مُأسسة، سيكون له الأثر الإيجابي في احتضان الثورة المجتمعية في روج آفا أكثر. وفي هذا المنحى يقول الفيلسوف أوجلان (ولَكَمْ كان تشكيل كومونة قرية أو عدة قرى سيغدو عملا باعثا على الحماس والحرية و الصحة والسلامة….)

5- لم يتم الإيلاء بالشكل المطلوب، بالاقتصاد؛ بالرغم من تحقيق الكثير من الخطوات في هذا المنحى، وما أقصده بالتحديد (الاقتصاد الحربي) طالما أن سوريا وشماله وشرقها  بشكل خاص وبحسب التداخل المكثف للرؤى والمصالح وبحسب روافض المشروع الديمقراطي (الاستبداد- الإرهاب- القومية البدائية) وأيضاً وبحسب رؤى مراكز البحث والدراسات العالمية والاقليمية أن الحرب تطول، كان من الممكن ولا يزال الوقت مسعفا، في إقامة قرى مؤهلة مستعدة لأي طارئ، وبعض من المشاريع الاقتصادية المتوسطة، وبعض من الصناعات المتوسطة أيضا، والهدف من هكذا اقتصاد ثلاثي الأبعاد: مرة من أجل الحد من ظاهرة الهجرة المبررة؛ إذْ أنه توجد هجرة غير مبررة وهي أكثر بكثير من المبررة على الأٌقل المنطبق عليه بالنسبة لهجرة الكرد أو مغادرتهم مع التشديد ما بين المغادرين إلى الجوار والمهاجرين إلى ديا سبورا، ومرة: توسيع الحاضنة الشعبية وبشكل كامل للقوة المدافعة عن وجود فاعل وحقوق الشعوب في روج آفا وشمال سوريا؛ وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم قوات سوريا الديمقراطية، ومرة أخيرة وهو الهدف الأسمى: تعتبر مثل هذه القرى حينما تضع الحرب أوزارها؛ أولى الخطوات نحو الاكتفاء الذاتي.

6- إذا كانت المرحلة الأولى من الثورة من أهم انجازاتها على الصعيد السياسي الكردي الهيئة الكردية العليا. وما ظهر لاحقاً فإن الخلافات بل القطيعة التي يصر عليها بضع أشخاص من المجلس الكردي ورفضها حتى الاعتراف بالإدارة الذاتية الديمقراطية لم يعد له أي مبرر إنما يتم تفسيره في رؤى متعلقة بالوطنية أو عدمها. فإن أهم انجازات ثورة 19 تموز في الوقت الحالي هي الفيدرالية الديمقراطية وفق الإدارات الذاتية الديمقراطية والتي تعتبر اليوم نموذج حل للأزمة السورية وفق ما تؤكده مراكز الدراسات الاستراتيجية العالمية المؤثرة في قرار السياسة الدولية. وفي هذا المجال يجب أن تقوم الثورة ومن يمثلها إلى الدفع بعقد المؤتمر الوطني الكردستاني بمفاد توحيد الموقف الكردستاني في الأجزاء الأربعة، وفي الوقت نفسه العمل على عقد مؤتمر للمعارضة السورية المؤمنة بالحل الديمقراطي في روج آفا- شمال سوريا.

7- هل نصيب عندما نسأل أنفسنا أننا قدرنا أن نوصف حقيقة ولب ثورة 19 تموز؟ هل تم العمل والفعل الثوري من أجل إيصال الحقيقة الثورية إلى جميع الشرائح المجتمعية والفئات المعارضة؟ هل استطعنا وبشكل ملبي للمكتسبات التي تم تحقيقها بفضل ثورة 19 تموز وبفضل الشهداء من أجل تدويلِ كُنه الإدارة الذاتية الديمقراطية على اعتبارها مفهوما جديدا لا بد العمل وفقه عالميا لاكتساب الصفة القانونية العالمية للإدارة الذاتية كجوهر للنظام اللامركزي الديمقراطي إلى جانب المعمول بها في القانون الدولي: الحكم الذاتي، الفيدرالية المعمول بها عالمياً، الكونفيدرالية، الدولة المستقلة؟؟ فكل ما تم ذكره لها دواعي الشخصية الاعتبارية. و انطلاقا من حقيقة الثورة المجتمعية في روج آفا؛ لا بد من العمل على إيصال حقيقة ثورة 19 تموز على كل المناحي: الكردية والكردستانية وعلى المنحى السوري، والمنحى الإقليمي، والدولي.

المجتمع الديمقراطي المتشكل من خلال مفهوم ونظرية الأمة الديمقراطية وتجسيدها عن طريق الإدارة الذاتية الديمقراطية تعتبر حلاً ناجعاً للكرد كمكون أساسي في المجتمع السوري، وكحل متقدم لكل سوريا، ومن غير أن نكون مغالطين غُلاة أن فاعلية ” الإدارة الذاتية الديمقراطية تعيد للشرق كله جهته التي افتقدها، وتُبْعِد عنه تبعيته للجهة التي تقابله؛ دون أن يفهم أنها دعوة للمقاطعة إنما هي كل التواصل ولكن على أساس الندية. هذه هي فلسفة أوجلان في التغيير والتحول الديمقراطي، ومن أجل هذه الفلسفة نعلن أن ثورة 19 تموز لن تفشل، إذْ لم نسمع عبر كل التاريخ أن ثورة استندت إلى فلسفة ورؤية نظرية ثورية قد فشلت، ولم نسمع عبر كل التاريخ أن ثورة قامت دون إرث فلسفي و أيديولوجية ثورية، فلكل فعل ثوري نظرية ثورية تستدعيها وتؤسس من خلالها كل مقاربة عملية علمية.

 

سيهانوك ديبو

زر الذهاب إلى الأعلى