مقالات

في تجديد الخطاب الفكري

محمد أرسلان

ما زال سيف ديموقليدس يقوم بعمله في نحر الرؤوس في منطقتنا معلناً أنه لا يمكن لأحد التفكير خارج الإطار الذي تم رسمه من قِبل الآلهة التي خطت ورسمت لنا مسبقاً طريق حياتنا حتى الممات. ولا يمكن لأي كائن أن يفكر البتة أنه في مقدوره الخروج من هذه القوقعة الدينية والقوموية وحتى التاريخية التي تم إقحامنا بها.

كل شيء مكتوب على الجبين، وفرضت على بني البشر القدرية تحت مسميات كثيرة منها ما هو تاريخي أو ديني أو قوموي، إنها الأطر التي فقط يمكن للإنسان أن يعيش في داخلها ويرسم لوحته التي يتمنى أن يعيشها في مخيلته فقط، لأن القوى الحاكمة على المجتمع هي من بيدها تحديد الواقع والحقيقة التي ينبغي أن نعيشهما ونحياها كما هم يرغبون ولا كما تمنينا نحن.

همّ ونحن، مصطلحان لا يمكن التفريق بينهما البتة، لأنه من دونهما لا وجود لنا، وهذا ما تم تلقيننا إياه على مدار الأيام والسنوات العجاف التي عشناها ونعيشها مرتبطين بأحلام نعيشها فقط في مخيلتنا لا يمكن أن ترى النور أبداً. أما الوجه الآخر من هذين المصطلحين ألا وهو نحن وهمّ، فلا وجود له في قواميس “هم” أبداً، لأننا غير موجودين في نظرهم أو أننا مجرد أدوات تم صنعها من كراماتهم “همّ” ولا يمكن أن نطلب منهم أي شيء لأنهم يعلمون ما نعلم.

هم الذين يحددون يومنا ومستقبلنا وحتى أحلامنا ومأكلنا وملبسنا و “هم” طبعاً من سيقومون بحمايتنا من كل شيء، فلا داعي أبداً أن نفكر بهذه الأمور لأنها ليست من اختصاصنا ووظيفتنا كبشر أن نقدم على خطوات ستكون سبباً في ضياعنا كما أوهمونا.

“همّ”، طبعاً الحكام وأرباب العمل والآباء والرؤساء ورجال العلم والدين ووجهاء القبيلة والعشيرة والمنطقة وكذلك الآلهة. وما على بني البشر سوى الطاعة العمياء وقبول كل شيء حتى نكون محترمين وعلى خُلق ومؤدبين ولسنا بصعاليك القوم وشواذهم.

مفارقات ملفتة للانتباه كثيراً لأننا عبر كمية العادات والتقاليد والموروث الديني وأسلوب العلم يتم تحديد هويتنا وانتمائنا ضمن المجتمع. هذه الأمور التي باتت من الطابوات المقدسة التي لا يمكن لأحد الاقتراب منها لمجرد التمحيص والشك، هي التي تحدد من نكون الآن وفي المستقبل وكذلك الماضي الذي لم نعشه نحن كما نريد، بل كما هم أرادوه.

الفلسفة التي تعتبر أم العلوم باتت شيئاً مجهولاً في عقلنا وذاتنا وشخصيتنا وحتى أننا لم نعد ندركها ونعرفها على أنها هي أساس تطور الإنسان والمجتمع، فغياب الفلسفة من حياتنا جعل منّا مجرد روبوتات تكرر ما يُطلب منها باستمرار حتى من دون تحديث ونعيش على الإصدار القديم الذي عفا عنه الزمن.

الفلسفة التي تعتبر أساس تطور الفكر الإنساني والمجتمعي باتت مغتربة وغريبة وغير مرغوب بها على أساس أنها تعمي القلوب والعقول، كما قيل لنا على أنها “بدعة”.

فما دامت الفلسفة غائبة ومجمدة وميتة سريرياً في كينونتنا فإننا لن نخرج من القوقعة التي تم وضعنا بها أبداً. فأول خطوة ينبغي القيام بها هي العودة لأساس تطور الفكر الإنساني والمجتمعي ألا وهو التفكير وإعادة تشغيل الفكر بما يخدم الإنسان المجتمعي الذي هو هدف الحياة ومبتغاها.

يعتبر الشرق الأوسط منبع الحضارات ومستودع الثقافات، حيث يملك رصيداً ثقافياً يمثل تراكم آلاف السنوات من الخلق والإبداع، لكن آثاره وإبداعاته تعرضت للطمس ولمحاولات القتل عبر مختلف المفاهيم اللا إنسانية.

أي أن عدم تناول التاريخ والدين والقوموية بشكل جديد وعدم التخلص من الدوغمائيات والأفكار الخاطئة، والإصرار على مقولات آلاف السنين السابقة وكأنها حقائق أبدية لا تقبل النقاش، يسد كل السبل أمام إمكانية تحقيق التطورات، وإلا فان التراكم الثقافي والمعرفي في الشرق الأوسط يشكل أرضية خصبة ويعطي فرصة رائعة لتحقيق أوسع وأرقى أشكال التطور، لكنها تبقى مجرد أرضية فقط إذا لم يجر استخدامها بدقة وإبداع، وهذا بالأصل لا يشكل إنكاراً أو ابتعاداً أو تخلياً عن الأصالة قط، بقدر ما تمثل حماية لها وتجديداً.

هذه الأفكار محاولة جادة في هذا الطريق الصعب والوعر والشائك المليء بالحروب والقتل والدمار، كما نعيشه اليوم في منطقتنا، وإذا لم تكن قادرة على الإجابة عن كل التساؤلات، فهي بالتأكيد ستمهد السبيل أمام محاولة لبناء الإنسان الجديد بمقاييسه الثقافية والحضارية والديمقراطية، وستكون مساهمة فكرية في دفع النقاش حول قضايا إنسانية مهمة كالدين والثقافة والتاريخ والقوموية والوطن والعلم والفلسفة، وكذلك أنبل شيء ألا وهو الإنسان.

زر الذهاب إلى الأعلى