مقالات

فيروس الإرهاب… وسُبل المكافحة

دوست ميرخان

لا شك بأن الثقافة كمنظومة فكرية سيكولوجية من أهم الأسلحة والوسائل الأكثر فعالية في مواجهة الإرهاب فهو السلاح ذاته يستخدمه الجماعات الإرهابية في استقطاب جماهيرها وتوسيع قاعدتها، لذا فأن تجفيف الإرهاب من جذوره يعتمد على هذه الوسيلة، كما أنها تعتبر في الوقت ذاته الخط الدفاعي الأول والأخير لحماية المجتمع من أي تطفل فكري خارجي يؤثر على ثقافته الأصيلة، هذا التطفل غالباً يحمل في جوهره بذور التسلط ينمو ويتكاثر على تسطيح العقل، فيغدوا جزءاً أو موروثاً ثقافياً لكن مغايراً للثقافة الأصيلة للمكان تلك المتعارفة عليها في الوسط الاجتماعي العام.

هنا يصبح السلوك السلبي في الثقافة الدخيلة جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الفكرية فأعمال الارهاب من قتل وسلب ونهب تُبرر تحت حجج عدة تستند في أساسها على خزعبلات ونصوص أيديولوجية لمجموعة وجدت نفسها خلال مرحلة تاريخية ما بأنها ناقصة ولا سبيل لخروجها من نكوصها ونقصانها إلا بأفعالٍ مغايرة على مبدأ “خالف تُعرف”.

بالطبع هذا الشذوذ في الفكر والثقافة شكل فرصة مناسبة لطبقة السلطة الذين وجدوا في التجييش والتحشيد لهذه الايدولوجية “الثقافة” وسيلة من وسائل التسلط والتوسع في نفوذ حكمهم على أكبر مساحة جغرافية، وعلى إثر ذلك شهد التاريخ الانساني حروباً ومعارك مدمرة شكلت بدورها قاعدة  فكرية وثقافية للحروب الراهنة؛ أي إن أفعال القتل والإجرام والتهجير ونفي الآخر أصبحت جزءاً من منظومة الدولة والسلطة وتم تشريعها بنصوص وقوانين.

فالحروب التي كانت تُخاض تحت مسميات عدة في الحقب والقرون الغابرة (الفتح والتحرير والتبشير….)، تكرر ذاتها اليوم وفق المنظومة الثقافية ذاتها لتكون قاعدة  للإرهاب الراهن، لكنها تطورت وازدادت تأثيراتها في ظل استباحة عقل المجتمعات من قبل أنظمة الحداثة بشقيها الديني والقومي خاصة مع تطور تكنولوجيا وسائل الاتصال والتواصل، لتصبح هذه الظاهرة بمتناول يد الشواذ، ولتتكاثر في بيئاتٍ حاصرها ممارسات التجهيل من كل الجهات وعلى كافة المستويات لتغدوا فريسة سهلة وأدوات رخيصة للمجمع الثقافي الإرهابي.

 تنظيم القاعدة على سبيل المثال لم يولد من فراغ بل كانت لها جذور دفينة وقاعدة فكرية انطلقت منها، ولو تمعنَّا في البيئة التي ظهرت فيها لوجدنا إنها بيئة اصبحت خالية من أي جوانب حضارية ثقافية، بيئة سيطرت عليها الخزعبلات والانشطارات الملتوية والمنحرفة عن الدين ناهيك عن الفقر الفكري والاقتصادي والسياسي لسكان تلك البيئات (جنوب وشرق آسيا وجنوب افريقيا على سبيل الذكر لا الحصر) لتصبح خلال وقت قصير من أكثر أماكن العالم تصديراً للإرهاب.

الجانب الآخر في نمو الإرهاب واعادة انتاجه ثقافياً يتعلق باستغلال انظمة الحداثة لهذا الفكر ولتلك البيئة لخدمة أهدافها وأجنداتها، بالطبع هذا لا يعني بأن المناطق المتمدنة لم تشهد حالات من التطرف ربما لم تكن دينية في المقام الأول لكنها كونت ثقافة إرهابية مماثلة للثقافة الإرهابية المبنية على أساس الدين أو العرق.

لطالما شهد التاريخ وحتى يومنا الراهن كيف أن الأنظمة اعتمدت على جماعات تحمل أفكاراً متطرفة في القضاء على الثورات والتمردات الشعبية حتى اصبحت هذه الجماعات إحدى وسائل الأنظمة في ترسيخ نفوذ أركان سلطتهم وتثبيت دعائم حكمهم؛ فالأجهزة العسكرية التي كانت تمتلكها لم تعد بمقدورها السيطرة عليها، أو إنها لم تكن تخضع  لها مباشرة على سبيل المثال.

 ولعل هذا الالتقاء في التطرف بين السلطة والجماعات الإرهابية قد ساهمت في تقوية الطرفين ففي الوقت الذي تجد فيه الأصوليات المتطرفة نفسها بأنها صاحبة الحقيقة وإن العنف الذي يؤمنون به هو جزء من الحقيقية (نحر الرأس وقطع الاطراف والجَلد والحرق..) وإلى ما ذلك من الأفعال الإجرامية وبأن من يغايرها يعتبر شاذاً يستوجب عقابه، يعمل الجهات المستفيدة على تغذية هذه الأصوليات وتوظيفها بشتى الوسائل لخدمة مآربها حيث يجد النظام الحاكم أيضاً نفسه بأن من يغايره فكرياً وثقافياً عدو يجب القضاء عليه وبأن الشرعية الوحيدة للدولة هي النظام الحاكم وهذا الأمر تطور مع ولادة الأنظمة القوموية.

في سوريا والعراق (بلاد الشام) شهد تنظيم القاعدة أزهى عصورها منذ نشوئها في العالم كتنظيم إرهابي يسلك ثقافة الإرهاب منهجاً في ترسيخ دعائم حكمه على بقعة جغرافية كوَّن لها قدسية دينية وقومية، وتمكن  بفضل دعم الأنظمة الحاكمة من تأسيس دولة أركانها الإرهاب كثقافة احتلالية للمكان. ومن خلال العنف، والعنف المفرط تمكن التنظيم من تشييد نظامه القائم على الإرهاب قولاً وفعلاً.

 القصد هنا بأن ثقافة الارهاب التي كونتها تنظيم القاعدة  تطورت بسرعة مع مرور الوقت ارتباطًاً مع أحداث الحياة السياسية التي اجتاحت المكان الذي برز فيه بقوة، إذ تحول بموجبها الثقافة إلى تطرف ثم إرهاب.

ولا شكك بأن هذا التطور المتسارع الذي حدث مع القاعدة في بلاد الشام بعد 2003 وحتى وقتٍ قريب قبل زوال التنظيم كقوة عسكرية وهدم أركان دولته المزعومة من قبل قوات سوريا الديمقراطية فإن الأمر الذي مكنه من هذا الصعود المتسارع هو البيئة الأيديولوجية الشعبية الدينية السياسية في تلك البقعة الجغرافية التي كانت خاضعة لسيطرة الفكر البعثي القوموي والذي عمل ولفترة طويلة من الزمن على تهيئة بيئة متطرفة على اساس قومي بعد أن أفرغ الثقافة العربية من مضمونها الأصيل، ناهيك عن حالة الفقر والجهل الممنهج والذي أودى بالحالة إلى ما وصلت إليها مع ظهور القاعدة كبديل ثقافي فكري واقتصادي.

لا شك بأن زوال التنظيم كقوة عسكرية يشكل أكبر خطوة في إطار الحملة الدولية للقضاء على الإرهاب لكن هذا لا يعني بأن أيديولوجية الإرهاب وثقافته إلى الزوال خاصة في الشرق الأوسط الذي أصبح حاضنة للإرهاب ومع ما نراه من تقرب دولي من القضايا والأزمات المفتعلة في الشرق الأوسط، كذلك فأن غياب تعريف محدد فكري وثقافي دولي عام للإرهاب يعتبر أحد عوامل ضعف في مواجهة  اجتثاث الارهاب فكرياً، وعلى سبيل المثال يدعم النظام التركي والقطري الإرهاب على مستوى العالم لكن النظامين يتمتعون بشرعية دولية، وهنا فأن الأموال التي تقدمها أوروبا لتركيا تذهب لدعم الإرهاب بشكلٍ من الأشكال وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر مشكلة في صياغة مواجهة موحدة  للإرهاب والإرهابيين.

وبدون شك فأن العديد من الأطراف الدولية والإقليمية لا ترغب في القضاء على الإرهاب كونه أداة رخيصة وفعالة في تنفيذ سياساتهم سواء عبر الارهابيين أنفسهم أو عبر ثقافتهم أو من خلال الأنظمة الداعمة والراعية للإرهاب.

في مجمل ما تقدمنا به في هذه المقالة يبقى السؤال من هو الإرهابي؟ وذلك في إطار السعي لمكافحة الإرهاب قانونياً وفكرياً وثقافياً.

زر الذهاب إلى الأعلى