المجتمع

علاقاتُ الجيرةِ بين الأمس والحاضر

استطلاع :حسينة عنتر

مقدمة:

تتميز منطقة الجزيرة بروج آفا بتنوّع مكوناتها من كردٍ وعرب ومسيحين وإيزيدين، تشكلت بينهم علاقاتُ جيرة وطيدة منذ عهود بعيدة، ولكن ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وخاصة بعد ما سمّي بالربيع العربي في منطقتنا وما يعيشه الكرد المنقسمين بين أربع دول وما جلبه هذا الربيع من مجموعات إرهابية، فانحرفت الثورة بمعناها وتحولت نفوس البشر وتلاشت العلاقاتُ. والأسباب كثيرة فقد تغيرت معاني الجوار ولم تعد تحمل ثقل وضخامة معناها في الماضي، حيث أصيبت العلاقات بين الجيران بالفتور فالجار في غالب الأحوال لم يعد ذلك الأخ والأب والصديق كما كان في السابق ولم يعد يراعي مشاعر جاره ولا ظروفه ولم يعد يشاركه في أفراحه وأتراحه إلا في أضيق الحدود ومن باب المجاملة على الأكثر، بل إن الجار أصبح مصدر الأذى لجيرانه. وهذا التدهور في العلاقات بين الجيران جزءٌ من مشكلة عامة تهتك بالعلاقات بين الأرحام سواء داخل الأسرة أو بين الأقارب، ويرجع ذلك إلى طبيعة الحياة المعاصرة وغلبة المصالح الشخصية والمادية والجري نحو الجاه والمال والأخطاء التربوية التي يقع فيها الآباء، فيربوا أبناءهم على الأنانية والعنف وعدم الرضى والقناعة بما لديهم ولا يربونهم على حب الخير والتعاون والإيثار والتسامح، ولا يدرك الآباء أن ما يتعلمه ويكتسبه الأبناء في مرحلة التنشئة الأولى والحداثة من القيم والأخلاقيات هو الذي يسيطر عليهم عندما يكبرون وتغطي على شخصيتهم مدى الحياة ويصبحون جيراناً لآخرين وتنعكس قيمهم التربوية والسلوكية التي اكتسبوها من قبل على علاقاتهم. كما نجد تأثير لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتفرعها بشكل غير محدود التي خلقت مزيداً من التطلعات والانحرافات في التنشئة والعلاقات الاجتماعية ومن ثم ينشأ التكالب والانطواء والانعزال ونسيان تلك القيم والعلاقات الأخوية بين مكونات المجتمع في الأحياء والأزقة، ولكن يظل الدين والانتماء إلى الجذور الانسانية وطبيعتها والتعليم والحضارة ومدى التزام الإنسان به هو المرجع المحدد لتطوير علاقة الإنسان بجيرانه وأهله.

وبهذا الصدد أرادت صحيفة الاتحاد الديمقراطي إجراء استطلاع حول الموضوع لتبين الفرق الشاسع بين العلاقات الانسانية منها علاقات الجيران فيما بينهم بالأمس والحاضر فالتقت الصحيفة بعينات مختلفة من المجتمع

إن كان المرء اجتماعياً ويبحث عن علاقات جيرة طيبة مع المحيط فلابد أن يسكن إحدى الحارات الشعبية

تركية، الأم الستينية التي تخرج عصر كل يوم إلى فناء دارها وتجلس مع جاراتها جميلة وأمينة، ليتبادلن أطراف الحديث ويحكين لبعضهن عن مجريات يومهن، ويكشفن لبعضهن ماذا جلبوا من عند البقال، كما يستفسرن عن وضع جارهم المريض في الحي، وماذا ينوين أن يفعلن حيال مؤنة الشتاء القادم لاسيما أن الربيع في أواخره ونحن نقبل على الصيف حيث تسعى كل أم إلى تدبير شؤون منزلها وتحضر مؤنة الشتاء.

تقول الأم تركية عن حارتها الشعبية: “ابنتي؛ صحيح أن حارتنا شعبية وأغلب بيوتها طينية، فهي تشبه القصور والبنايات. وشوارعنا ترابية ليست مرصفة إلا أنها أفضل مكان يستمتع فيه المرء بحياته، قلما ترى سكانها متقوقعين على أنفسهم، وإن كان المرء اجتماعياً ويبحث عن علاقات جيرة طيبة مع المحيط فلابد أن يسكن إحدى الحارات الشعبية”.

بلكنتها القروية وبحة صوتها الرقيقة تضيف الأم تركية: “بعد أن ننهي أعمالنا المنزلية نخرج نحن نسوة الحي إلى الشارع أو فناء أحد البيوت لنجتمع فنكون عبر اجتماعاتنا هذه على دراية بأخبار الحي كله، كما أننا نتبادل الزيارات فيما بيننا، أما رجالنا فهم أيضاً يخرجون إلى العذوات معاً وكذلك الأعراس أي في السراء والضراء، وهم أيضاً لهم اجتماعاتهم الخاصة وأعتقد أن حياة هكذا تحافظ على العلاقات طيبة بين سكان الحي”.

 أخُوة وصفاءٌ واحترامُ مشاعر، وتعاونٌ في المناسبات. هكذا كان الجيران في القديم، يحافظون على المحبة، ويتسامحون ويتراحمون.
غير أن مشاهد التعاون والتعاطف بين الجيران باتت تختفي مع رياح التغيير، وإيقاع الحياة المتسارع الذي شهده العصر الحديث، فنسي الجيرانُ جيرانهم.

تبدلت الحال في هذه الأيام وبات الجار بعيداً جاره:

العم محمد أمين سليمان رجل عجوز من القرى الملاصقة لقامشلو، هو مسن بين السبعين من العمر يتذكر الأيام الخوالي وذكريات الجيرة الطيبة في القرية والمدينة، ويقول بأن الجيران كانوا في الأعياد أول من يبارك لهم كما أنه وفي مناسبات الأفراح كان أول من يتم دعوته من  جيرانه في الحي قبل الأقرباء وفي الأتراح كان الجيران أيضا هم أول من يهب للمواساة مشيراً إلى أن الحال تبدل هذه الأيام كثيراً وبات الجار بعيداً عن جاره وهمومه. لا أعلم من السبب وخاصة في هذه الأوضاع الراهنة التي تنوعت الأسباب وازدادت إلى حد انهمك فيه الشخص وضاع في متاهات الحياة ومسؤوليات العمل ومتطلبات الأسرة التي لا تعد وتحصى وانحلال علاقات الجيرة شيئاً فشيئا.

وسائل التواصل الاجتماعي قضت على القرابة وصلة الرحم

كاظم مدرس علم الاجتماع: فتور علاقات الجيران يعزوها مختصون إلى هموم ومشاغل الحياة التي تزداد تعقيدا يوماً بعد يوم، فهي تلهي الجيران عن جيرانهم وخاصة في مناطق روج أفا الذي قل ما تجد الجار يزور جاره. فربما يسمع صدفة عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي بأنه مريض أو قام بإجراء عملية ما أو توفي أحد أقرباه فيبعث له نعوه ودعاء له بالشفاء العاجل عن طريق الفيس. هذا ما بقي لنا من تلك العلاقات التي كانت في يوم من الأيام أقدس العلاقات . ولعل السبب إلى جانب انتشار وسائل الاتصال الحديثة التي قضت على القرابة الجغرافية وأقامت صلة الرحم بين الناس المتباعدين في الأمكنة على حساب علاقة الجيرة القديمة، وأصبحت زيارة الأقارب والسؤال عن أحوال الآخرين تتم عن طريق الفيس والواتس والجوال، فأصبحت تلك العلاقات ميته فقدت الروح وخلت من الحيوية.  فالعلاقة التي كانت بين الجيران لها من القدسية ما جعلت مقولة الجار قبل الدار ضرباً من الماضي، فقد كان للجار في تلك الأيام حقوقاً أصبحت تغيب عن حاضرنا ونحن نعيد أسباب تراجع العلاقة بين الجيران إلى الانسياق وراء المال والمصلحة الخاصة بائعين المصلحة العامة.

ما بقي لنا من الجيرة هي التحية العابرة في الطريق صدفة:

خورشيد يؤكد أنه لا يتواصل مع جاره المقابل له في العمارة إلا بتبادل التحية العابرة في الطريق إن تلاقيا صدفة، بل وفي كثير من الأوقات يترصد خروج جاره حتى يتجنب هذا التواصل معه وعدم الاحتكاك، ليس من أجل وقته الثمين أو كما يقول أنا مشغول بعد أن أنهي دوامي أكاد أن أذهب إلى البيت لاستراحة الغداء التي لا تتجاوز الساعة وأعود ثانية للعمل في مكتب خاص. وإن كان المواطن خورشيد هو نفسه يستغرب سلوكه هذا الذي ليس له ما يبرره لاسيما وأنه لم ير من جاره إلا الطيب وما إلى ذلك فلماذا هذا البعد بين الجيران وعن الأسباب التي أثرت على حياة الجيران وعلى علاقات بعضهم بالبعض الآخر!

يرى خورشيد أن الأمر لا يعود لعوامل مادية فقط إذ صارت كل أسرة تشعر بأنها مؤسسة اجتماعية مستقلة بذاتها تستطيع تأمين مستلزماتها، وبالتالي ليست بحاجة إلى الآخر وهذا ما جعل الناس يعتقدون أنهم لن يحتاجوا إلى جيرانهم ولا حاجة لهم لمد جسور التواصل وإقامة علاقات مع الآخرين.

باتت العلاقات الاجتماعية بلا ودّ وتواصل وتسامح:

الخالة أم عبد القادر امرأة تجاوزت الستين من عمرها تقول “اختلفت علاقة الجيران كثيرا عن الماضي” وقد لمست هذا الاختلاف الأكبر عندما انتقلت من حي العنترية الشعبي وسكنت في حي المزرعة بقامشلو في شقة  بالطابق الثالث. مبينة أنّ العيشَ في الشقق يكون منعزلاً عن الجيران ولا أحد يعرف جيرانه ولا يتبادلون الزيارات فيما بينهم.  ناهيك عن أن بعض الجيران يتعالى على الآخرين بمستواه الاجتماعي والاقتصادي مما أصاب النفوس بالحقد والضغينة. أتذكر سابقاً عندما كنا ننوي غسل سجادات البيت كيف تلتم كل فتيات الحي ونسائها للمشاركة معنا وتساعد بناتي في الغسل وكذلك أعمال المونة وغير ذلك، كما أتذكر عندما كنت أخرج التنكة والسيخ لشوي الباذنجان تخرج الجارة وتنادي ابنها اجلب الحطب والكراتين لخالتك وتأتي بالباذنجان لتشوي هي فتثير غيرة الأخريات ليمتلئ الشارع بدخان الكراتين وراحة الباذنجان المشوي، كأنه احتفال بالباذنجان فتكون وجبة غذاء لكل الحارة وبينما الفتيات يقشرن الثوم وهكذا تتوزع الأدوار بين الجميع كأنهم أسرة واحدة. وتضيف الخالة أم عبد القادر وكيف لا أجد الفرق بين تلك العلاقة الطيبة بين الجيران في المناطق الشعبية وحاراتها والتي كانت تُحفظ فيها روح التعاون والأخوة فاختلفت كثيراً لم تعد كسابق عهدها، مبينة إلى أن العلاقات باتت بلا ود وبلا تواصل وبلا تسامح، وبلا رحمة أحيانا وووووو.

انشغال المرأة بالعمل خارج المنزل خلق فتوراً بينها وبين جارتها:

في حين ترى المدرسة رانية إحدى مدرسات المرحلة الابتدائية بمدينة قامشلو بأن خروج المرأة إلى العمل وانشغالها الدائم خلق فتوراً وجسوراً واضحاً بينها وبين جاراتها، مضيفة إن صعوبة الحياة في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الناس في روج أفا ومحاربة الإرهاب كثيراً ما تشغلهم عن إقامة علاقات طيبة مع الجيران. فالهم الوحيد لرب وربة الأسرة هو تأمين لقمة العيش لأبنائها وتستذكر رانية طفولتها وما كان فيها من علاقات دافئة مع جاراتها اللواتي كن يجتمعن يومياً لإعداد الأطعمة وخاصة في العطل والمناسبات قائلة إن المرأة الآن ليس لديها وقت تمضيه مع جاراتها مع ازدياد همومها وأخطر ما في الأمر خلل العلاقة بين الجيران توسعها، وانعكس هذا على أفراد الأسرة داخل العائلة نفسها إلى درجة أن هناك بعض الآباء صارت علاقتهم بأولادهم لا تتعدى حدود التمويل المادي.

غزا الجفاء العلاقات الانسانية:

أفين يوسف إعلامية في صحيفة الاتحاد الديمقراطي من الحي الغربي بقامشلو، قالت منذ سنتين انتقلنا لمنزلنا من كورنيش إلى هذا الحي الجديد. ما شد انتباهي هذا الفرق الواضح التي نبهتني عنه والدتي يا للغرابة لهذه الحارة التي لا يطرق أحد الباب على الآخر، في الماضي عندما كان أحد يغير منزله وينتقل إلى منزل آخر لا يخلو البيت من زيارات الجيران وجلب هدية للبيت، وكذلك مساعدة نسوة الحي مع أطفالهن لعائلة الساكن الجديد، وبعد الاستقرار ومضي وقت يجتمعن النساء حول سفرة الشاي في بيت إحداهن ويتبادلن الأحاديث فيما بينهن حول أوضاع الحي كي يتم معّرفتي لسكان الحي.  بالفعل هذه الأيام لا تنسى، أما الآن بالكاد معرفة سكان البناية وليس كلهم بالتأكيد  “الجديد”  فأعود وأسأل نفسي لماذا هذا الجفاء في العلاقات الاجتماعية!، هل تغير نمط الحياة أم تغير الناس، على الرغم مازالت بعض الحارات الشعبية تحافظ على روح التواصل بالرغم من اختلاف ملامح السكان في هذه الأحياء وتعدد المكونات، ولا سيما بعد نزوح عائلات من محافظات أخرى نتيجة الاحتقان وعدم الاستقرار فيها، فلجأت إلى مناطق روج أفا لتجد الأمن والاستقرار ورغم ذلك فاللاجؤون مستغربون من العلاقات في روج أفا وكانوا يحسدوننا على ذلك فنقول لهم في القديم كانت العلاقات أشد تماسكاً وارتباطا.

كلمة للمحرر:

بغض النظر عن طبيعة البيوت والمباني وتنوع الحارات والسكان وما رافق الحياة والبشرية من تكنولوجيا متقدمة، لا بد لنا من مراجعة أنفسنا دوماً والتعرف على الأسباب التي آلت إليها مجتمعات الشرق الأوسط ومن بينه مجتمعنا الكردي. فمن هذه الأسباب الهجرة التي حدثت نتيجة الأزمات والحروب والتي كنا دوماً نقف ضد كل من يسعى إلى الهجرة وترك وطنه وحيداً ليعاني الغربة وليندمج مع ثقافة غريبة عنه بعيدة عن عادات وتقاليد المجتمع الذي عاش فيه فتنصهر العلاقات التي عاش عليها بمفهومها الانساني . ولربما طبيعة الحياة  والغلاء الفاحش وارتفاع السلع الضرورية تجعل الهمّ الوحيد للفرد هو البحث والجري عن مصادر الرزق وتأمين مستلزماته، فلا يبقى له من الوقت للتفكير بجاره هو أحد هذه الأسباب.

وربما يكون السبب الرئيسي باعتقادي كثرة وسائل الاتصال الاجتماعي التي غزت حياتنا، والتي باتت تقتصر على العمل والنوم والواتس والفيس بوك وانطواء كل فرد على نفسه متخذاً القاعدة (لا تتدخل فيما لا يعنيك)هذا لا يعني الجيرة والصداقة بل الانعزال والانطواء على الذات. فهنا قراءنا الأعزاء وجب علينا مراجعة الأسباب التي أدت إلى اضمحلال هذه العلاقات وإعادة بناء علاقات جديدة وسليمة مبنية على الاحترام والتعاون والمشاركة. إذا احتاج جارك للمساعدة فلا تتردد بتقديمها له إن كانت مادية أو معنوية هذه الأمور تفرض طابع الثقة في العلاقة بين الجيران.

زر الذهاب إلى الأعلى