مقالات

عقدة القضية الكردية بين قوى الهيمنة والدول الإقليمية

عبد الكريم ساروخان

مفهوم الأمة الديمقراطية والذي يعتبر بمثابة نظرية فكرية وبديل عن مفهوم الدولة أو السلطة المركزية .هذه النظرية تحمل في طياتها مجمل الحلول للازمات الاجتماعية التي عاشتها وتعيشها المجتمعات أو الدول القومية وكذلك الأمر بالنسبة للازمات العالمية، التي أفرزتها الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانتهاكات الأنظمة الرأسمالية وقوى الهيمنة العالمية في عصور سابقة، والتي استطاعت أن تستمر حتى مطلع هذا القرن.

في بداية القرن العشرين كانت نتاج التوافقات الدولية فيما بين قوى الهيمنة مقتصرة على كل من فرنسا وبريطانيا اللتان كانتا تشكلان النظام العالمي وتتحكمان به لرسم سياسات العالم، ونخص بالذكر الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والتي أثرت بشكل سلبي على القضية الكردية بالدرجة الأولى، من تقسيمها وتشتيتها وإنكار هويتها وثقافتها وارتكاب مجازر بحق شعبها خدمة لأجنداتها العالمية، والتي اعتمدت على قوى محلية لاستمرار هيمنتها على الشرق الأوسط، وبالأخص في مابين الدول (التركية والفارسية والعربية).

بهذه الطريقة تتضح وظيفة هذه الدول في إبادة الثقافات الاجتماعية الموجودة التي وضعت أو سمحت بأن تكون تحت سيطرتها وهيمنتها وبذلك تكون الأرضية الخصبة لترسيخ وتنفيذ مشاريع الرأسمالية في الشرق الأوسط ، ولأجل الوصول إلى هذه الأهداف عملت هذه الدول جاهدة لإزالة العوائق التي تعترض طريقها، فوصل المجتمع الشرق الأوسطي وبالأخص الكردي إلى حالة يرثى لها من التشتت والانحلال وتعرضها للإبادة، حتى تم استهداف ذهنيته ، بحيث أصبح يتقبل الواقع الذي يعيشه وكأنه قضاء وقدر بحسب المنطق الديني.

نستطيع القول بأنه وصل إلى حالة لم يعد يشعر بأنه هناك قضية بالأساس،فلم يعد يبحث عن حلول باستثناء بعض التمردات والانتفاضات التي لم تستطع تحليل الواقع المجتمعي والسيسيولوجي للكرد ونظرة الدول وقوى الهيمنة نحوها وكان يجد الحل ضمن المفاهيم الراسخة كالمفهوم الديني أو مفهوم الدولة القومية التي يتطلع إلى أن يتصدق بها احدهم دون أن يكون لهم جهد فيه  متناسين بأن مصالح تلك القوى تقتضي أن تسحق المجتمعات والشعوب خدمة لأجنداتهم باستثناء القلة القليلة على مستوى بعض الأفراد والتي لم ترتقي إلى مستوى الجماعات وبهذا الشكل أصبحت ثقافاتنا ومجتمعاتنا معرضة للانحلال والتشتت.

أصبحت المجتمعات،في تلك الحقبة التي تلت الحرب العالمية الأولى والثانية،تعاني من هيمنة إيديولوجيا الحداثة الرأسمالية والتي سخرت كل شيء لخدمتها وزيادة رأس مالها وأرباحها وهذا التأثير مازال حتى هذه اللحظة وبكثافة أي نستطيع القول بأننا نناضل في عدة جبهات داخلية نوعا ما ومحلية ضد الدول الحاكمة والمغتصبة لكردستان، وإقليماً ضد التكتلات والمفاهيم المتسلطة من ديكتاتوريات حاكمة وذهنيات متسلطة على الشعوب والمجتمعات والدول بالإضافة إلى صراعنا الإيديولوجي المناهض لمفهوم الحداثة الرأسمالية المستهدف أساساً الإنسان والطبيعة من أجل أرباحها وفائض الإنتاج لديها أي أننا نصارع على كافة هذه الجبهات الفكرية أكثر من الجبهات العسكرية، كون مجتمعاتنا استُهدفت فكريا، كما أسلفنا، وبالتالي الدول الإقليمية، تعتبر نموذج مصغر من قوى الهيمنة العالمية بالإضافة لديمومتها تباح لها كل المجازر وتدمير المجتمعات تحت عنوان الحداثة الرأسمالية،أو ما يسمى بالنظام العالمي،وما المجازر التي ارتكبت بحق الملايين من السريان والأرمن والاشوريين في شمال كردستان وتركيا، وما تعرض له الشعب الكردي من مجازر وويلات، تحت سيطرة الدولة التركية والفارسية والعربية والتي تحمل وتحتمي بمفهوم الأمة الإسلامية إلا مثالاً صارخاً عن ذلك.

وحالياً تغيرت الأدوار في النظام العالمي، وبدأ التاريخ يعيد نفسه بشكلٍ وحلةٍ جديدة ونموذج جديد، بعد أن كان الانكليز هم يقودون هذا النظام تحول دفة القيادة والتحكم إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولكن يبقى اللاعبين الأساسين هم الانكليز والفرنسيين كقطب، والقطب الأخر الروسي الذي بات يلوح في الأفق عن إعادة هيمنته من جديد في الشرق الأوسط إلى جانب ظهور الصين كقوة فعالة تقف إلى جانب القطب الأخير.

فمسألة الأزمات التي تعيشها الدول الإقليمية في الشرق الأوسط وحالة الفوضى العارمة والتي نحن بصددها وعدم تحقيق الحل بعد كل هذه المجازر التي حصلت وحالة الدمار للمجتمعات والدول وانهيار للبنى التحتية وهجرة الملايين من الشعوب، بدون التوصل إلى مسار الحل لكافة هذه القضايا ، وكل ما يحصل سببها قوى الهيمنة العالمية إلى جانب القوى الإقليمية المحلية، التي تقتضي مصلحتها عدم البحث عن الحلول، وهذا يعني بأن هذه الحكومات و الدول هي مسلوبة الإرادة ولا حول لها ولا قوة ولا تلتفت لإيجاد الحلول للأزمات المعاشة كونها على يقين بأن مصلحتها واستمراريتها مرتبطة مع قوى الهيمنة و بسط سيطرتها وسلطتها مستندة إلى مبدأ القوة والقمع، لكن الدور التركي هو دور مختلف نوعا ما كون تركيا تتمرد على قوة الهيمنة لتكون لها حصتها الأكبر من التغيرات والمكاسب من الأزمات الموجودة، لكن هذا لا يعني بأن تركيا كانت خارج سرب النظام العالمي لا بل كان الدور منوطا بها ولكن يتضح بأنها تحاول القفز على النظام العالمي وقوى الهيمنة وتستفيد من التناقضات الموجودة فيما بين هذه القوى بحد ذاتها، وبهذه ستكون هناك نتيجة حتمية إما أن تكون ضمن تحالفات جديدة متناقضة مع واقعها أو تصطف إلى جانب الناتو كما السابق لتكون بداية جديدة لها، وهذا يعني أما الانهيار أو مواجهات، وبالتالي سيكون هناك تغيرات غير مسبوقة ،  مع إصرار النظام العالمي الحفاظ على مكانته في الشرق الأوسط، من أجل أطماعه التوسعية، ولذلك تركيا تتحرش بقوى الهيمنة وتحاول الخروج إلى خارج القطيع أو السرب كي يكون لاعبا أساسيا في السياسات المستقبلية، لكن يبدو أن هذه أيضا لا يتواقف بنسبة كبيرة مع السياسات العالمية وسياسات قوى الهيمنة الجديدة .

وما نحن في مواجهته هو عدم تقبل هذه الأنظمة وبشكل خاص تركيا لنموذج الحل، كونه مناقض لمفهوم الحداثة الرأسمالية وبالتالي هو معرقل لسياساتهم التي تؤدي إلى أزمات خانقة وتألب الشعب على السلطات لعدم استجابتها لمطالبها وهذا يعني تخوفهم من إسقاط دولهم وسلطاتهم وبالتالي التأثير السلبي حسب مفهومهم على مسار الحداثة الرأسمالية.وبدل أن يتقبلوا هذا النموذج سيحاصرونه كي لا يتوسع، كما سيقومون بتطعيمه ببعض من نماذجهم حتى لا تكون فقط بمفهوم الأمة الديمقراطية، أي سيكون خليطا فيما بين النظامين، وما مسألة المحادثات الكردية الكردية إلا لدمجهما مع بعضهم ، تيار يتوافق مع تطلعات المفهوم الرأسمالي، وتيار يتوافق مع تطلعات المجتمع بنظرية الأمة الديمقراطية.

من هنا من يعتقد بأن إيجاد الحل مرتبط فقط بالدول الحاكمة أو الدول الصغيرة فهو واهم،فالحل مرتبط بقوى الهيمنة المتسببة بالأزمة الحقيقة بالدرجة الأولى ومن ثم الدول الإقليمية بالدرجة الثانية وبالتالي الحل يمر عبر بوابتهم ولكن من خلال استنهاض جماهيري منظم وثوري إلى أقصى الدرجات ووصول المجتمعات إلى أعلى المستويات في تطور الذهنية المجتمعية لتقتنع بان المسالة هي اكبر من الدول الإقليمية والمحلية،فالمسالة ليست متعلقة بالحزب الفلاني أو المشكلة الفلانية وهي ليست كما تروج خلافات حزبية أنما توجهات وأفكار مستقلة ومسألة إيديولوجيات فكرية تمس باركان النظام العالمي والإقليمي.

إذا نحن أمام أزمة متجذرة وعميقة جداً تتخطى مفهوم الدول الإقليمية وتتخطى المصالح المحلية لتصل إلى مصالح القوى العالمية والقوى المرتبطة بها ومن هنا يتضح حجم عُقدة القضية الكردية محلياً وعالمياً،فنحن في حالة صراع فكري مع القوى العالمية، ومع الأسف مازال مجتمعنا راكضاً مهرولاً وراء المصالح الآنية والوقتية ومجموعاتها أو أحزابها أو كما يسميها القائد أوجلان الطبقة العليا في المجتمعات،تركض وراء مصالحها الحزبوية الضيقة، والتي تؤدي إلى إنكارها لذاتها وقضيتها وبالتالي للحفاظ على مكانتها في أواسط السياسة والمتغيرات.

هذا ما حصل في التاريخ القديم والحديث أيضا، حتى بقي مجتمعنا بعيداً عن التغيرات السياسية العالمية،هنا يتضح بأن هذه الفئة والشريحة تشكل عائقاً أمام الحلول المطروحة للمسالة، لا بل أنها تحاربها فكرياً وعسكرياً وسياسياً، حتى أنها تسخر كافة قواها لمحاربة هذا الطرح عبر بعض الجهات التي لا تستطيع أن ترى أبعد من أنوفهم وبالتالي نحن أمام ثورة حقيقية لتكون بدايتها ثورة ذهنية وفكرية، تشكل أرضية مستقبلية لمجتمعاتنا من خلال استنهاض جماهيري منظم وثوري ووصول المجتمعات إلى أعلى المستويات في تطور الذهنية المجتمعية والتوجه لطريق الحل الصحيح رغم أننا خطونا خطوات كبيرة في هذا المجال ولكننا نحتاج إلى استمرارية أكثر من السابق وبالأخص في المجال الفكري والذهني وتطبيقه على ارض الواقع .

زر الذهاب إلى الأعلى