المجتمع

صورٌ من عاداتنا

تتميّز مناطقُ روج آفا منذ القِدَم بتراثها الغني وحضارتها الراقية، وتتوضح صور هذا التراث العريق في كثير من الطقوس التي يمارسها الكردُ على مدار السنة،  فلهم في مواسم الحصاد طقوسٌ ومواسم قصاص الغنم ( الجزّ ) وصناعة دبس البندورة ومواسم سلق القمح، وغيرها من الاحتفالات التي لها طابع اقتصادي تعاوني يشترك فيه السكان بعيداً عن الأزمة ومعاناة المهجر وفراق الأحبة وما آل إليه الأهالي من حصار وغلاء وارتفاعٍ للأسعار.

وبهذا الصدد توجهت صحيفة الاتحاد الديمقراطي إلى أحد أحياء مدينة قامشلو، وأجرت بعض اللقاءات مع النسوة لتُعرِّفَ القّراء على صورٍ من عاداتنا في روج آفا:

السيدة شكرية عباس: من إحدى أحياء مدينة قامشلو في حديثها للصحيفة؛

يقوم أهالي المدينة وأريافها في مثل هذه الأوقات من كل عام بتحضير العديد من المؤن استعداداً لاستقبال فصل الشتاء، ومن هذه المؤن البرغل بأنواعه، والذي يتم تحضيره عن طريق سلق القمح في قدور كبيرة توضع على مواقد في شوارع الأحياء، ليأخذ هذا الطقس شكل الاحتفال من قبل الأهالي الكبار منهم قبل الصغار؛ الذين ينتظرون لساعات طويلة ومتأخرة من الليل ليحصلوا على مقدار من حبات  القمح المسلوق من أجل تناوله ساخناً، لطالما انتظروا ذلك طيلة العام قبل أن يُفرَش على أسطح المنازل.

الخالة سلطانه من حي قدوربك: تحدثت بدورها عن مراحل تجهيز سلق القمح (الدانوك)، في البداية يتم تأمين قدور كبيرة للسلق وإحضار الحطب، ومن ثم قيام نسوة الحي في المشاركة بغربلة القمح كاملاً، ويجب ألّا تبقى مع حبات القمح أي شائبة أو حبات غير القمح، وبعد ذلك تقوم بغسله وكيله،  ويتعاون رجال الحي بحمل السطول المعبأة بالقمح ويوضع في القدر الموضوع على النار لمدة ساعتين أو أكثر حتى يتمّ سلق القمح وتصبح حبوبه ناضجة مستوية، وتتوزع الأدوار على الفتيات وفتيان الحي؛ فينقل البعض منهم القمح المسلوق إلى السطح وبعضهم الآخر يقوم بتقليبه وتحريكه بواسطة الرفش، كما ويعبأ ويقع العبء الأكبر على الفتيات اللواتي يقمن بنقل السطول المعبأة بحبات القمح المسلوق إلى الأسطح، ثم يتم تصفيتها وتجفيفها تماماً بفردها وفرشها  لمدة أيام.

 زانا طفل من حي قناة السويس: عندما نسمع بأن أحد الجيران سيقوم بسلق القمح نظلّ نراقب بيته ونتأكد من ذلك، عندما يحضر القدر الكبير الخاص بسلق الدانوك، ونقوم بإعلام أطفال الحي أن بيت فلان سيقوم اليوم بسلق القمح وللتأكد( انظروا الوعاء الكبير أمام البيت) ونبقى في الانتظار، حتى يُجهّز الوعاء الكبير وتُشعل النيران تحته.

 مع سكب كميّة من المياه تناسب كميّة حبّات القمح، وتفرغ حبّات القمح على المياه وتبقى لمدة زمنية تصل إلى الساعتين أو أكثر، وبين لحظة وأخرى  يتم قلب جميع الحبّات من خلال أحد الرجال أو الشباب فالعميلة بحاجة إلى قوّة، وبعد التأكد من سلقه جيداً وجفاف المياه نهائياً، وما أن يخفَّ لهيب الجمر حتى يتجمهر الأطفال حول القدر، وبأيديهم الصغيرة يحملون صحونهم ومن كان السباق في أخذها تطارده نظرات الحسد من أقرانه ليركن في رصيف الشارع يلتهمها لعل وعسى ينال حصة أخرى. ومنهم من يأخذ حصته إلى البيت ليشرك أخوته معه في تناول حبات القمح الساخنة، ومنهم من يفضل تناولها بالسمنة، وبعضهم يرشّ عليه السكر والبعض الآخر يرش عليه الملح.

إنها حقاً لوحة جميلة تتبين فيها العديد من عادات الكرد التي تدل على التعاون والتعايش السلمي لأهالي مناطق روج آفا من خلال تناوب  ومشاركة الشابات والشباب والكبار والصغار على العمل وتعالي الأصوات حول هذا القدر الكبير، ورسم الفرحة على جميع الوجوه. وفي نهاية العمل يتم نشر القمح المسلوق على مساحة السطح كاملاً، حيث تتناثر الحبات منفردة لكي تجف جيداً، وبعدها يتم نقل القمح إلى المطحنة من أجل طحنه إلى ثلاث أنواع، ناعم ومتوسط وخشن، وكل نوع يستخدم لحاجة معيّنة، ثم يتم جرشه في الطاحونة ثم يتم تنخيله لإزالة قشور القمح عنه، ويتم استخدام مناخل ذات ثقوب مختلفة للحصول على برغل ناعم وبرغل خشن ولكل منهم استخداماته.

والنوع المتوسط عندما نضيف إليه الشعيرية المحمّصة يصبح وجبة دسمة ومرغوبة في منطقتنا كثيراً وخاصة للولائم، وبرغل الجزيرة له نكهة خاصة ومميزة، ليس من أحد زار مناطق الجزيرة إلا وأراد تناوله، وكذلك رغب في الحصول على كنوز الجزيرة (البرغل) اشتهاها ليقدمها لعائلته أو لأعز معارفه. وكذلك من يعيش خارج الوطن متنظراً وافداً لعله يحمل معه كمية من البرغل التي طالما افتقدها في مكان إقامته.

تقرير: حسينة عنتر

زر الذهاب إلى الأعلى