العالمتقاريرسياسة

شمال شرق سوريا.. مفتاح “واشنطن” لإبقاء “داعش” مهزوما والحفاظ على النفوذ الأمريكي

تقع منطقة شمال شرق سوريا على مفترق طرق القرارات السياسية الحاسمة في “واشنطن”، فهي في قلب الأزمة المتصاعدة في العلاقات الأمريكية التركية، بينما يحافظ التواجد الأمريكي هناك على وسيلة عرقلة المكاسب الإيرانية والروسية في سوريا. كما أنه مفتاح الإبقاء على تنظيم “داعش” مهزوما ومنع عودته من جديد. يجب أن ترى “واشنطن” شرق سوريا كواحدة من أهم الأجزاء الاستراتيجية من “الأمور الأساسية” التي ظهرت خلال نصف العقد الأخير من الصراع في الشرق الأوسط.

منطقة شمال شرق سوريا، حيث تلعب الولايات المتحدة اليوم دورًا حاسمًا، تبلغ في حجمها تقريبًا حجم ولاية فرجينيا الغربية، وهي الآن نوع من العقدة الغوردية. وفي حين أن الأعداء الأمريكيين، مثل روسيا أو إيران، لديهم هدف واضح في سوريا، هو الحفاظ على نظام بشار الأسد في السلطة وترسيخ نفوذهم، فإن هدف السياسة الأمريكية أقل وضوحًا.

هددت تركيا، حليف الولايات المتحدة التاريخي، مؤخرًا بشن عملية عسكرية في شرق سوريا ضد الشركاء الأمريكيين الرئيسيين الذين ساعدوا في هزيمة ما يسمى بتنظيم “داعش”، ما يجعل “واشنطن” أمام خيار عقد صفقة الشيطان: اتركوا شرق سوريا وشاهدوا خمس سنوات من قتال “داعش” والعمل مع القوات المحلية تنهار بالكامل، أو استمروا في تأجيج الأزمة مع تركيا. اختارت الولايات المتحدة حلاً مؤقتًا، قائلة لأنقرة إنها ستعمل على إنشاء “منطقة آمنة” على طول الحدود السورية التركية.هل شرق سوريا مجرد تكلفة باهظة لـ”واشنطن”؟ الحقيقة هي أن الولايات المتحدة، جزئياً عن طريق الصدفة وجزءاً من خلال المهمة التدريجية، وجدت نفسها أمام أهم حلقة من محاور السياسة الخارجية الأربعة التي تربط الشرق الأوسط والعالم. إحداها هي استراتيجية إيران الإقليمية، والأخرى هي خطط روسيا، والثالث هو أهداف تركيا، وأخيرًا، إبقاء المنطقة خالية من “داعش” ومنع عودته. لم تبدأ الأمور بهذه الطريقة، فقد كان شمال شرق سوريا جزءًا فقيرًا مهملاً من البلاد طوال القرن العشرين. قامت إدارة “أوباما” بتعميق انخراط الولايات المتحدة في الصراع السوري في البداية من خلال دعم المتمردين المناهضين لـ”الأسد” لكنها تحولت إلى التركيز على هزيمة “داعش” بعد عام 2015. وفي النهاية، شكلت تحالفا من 75 دولة لمحاربة “داعش” في العراق، مع بعض الدعم لمناهضة عمليات “داعش” في سوريا.

لقد كانت حربًا مفتوحة بتفويض لهزيمة المتطرفين، وتحولت إلى دعم لقوات سوريا الديمقراطية باعتبارها الشريك الرئيسي في القتال ضد “داعش”. أراد البنتاغون انتهاج مقاربة “عن طريق، مع ومن خلال” تتضمن بصمة أمريكية صغيرة، حيث تدعم المقاتلين الذين ينحدر معظمهم من المقاتلين الأكراد. وقرر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من سوريا في ديسمبر/كانون الأول 2018، ثم تباطأ، بعد أن فقد “داعش” آخر موطئ قدم له في مارس/آذار 2019، لكن الآلاف من مقاتليه السابقين شكلوا خلايا نائمة.

يقول تقرير لـ”البنتاغون” صدر في 6 أغسطس/آب إن الولايات المتحدة أكملت انسحابًا جزئيًا في وقت كانت فيه قوات سوريا الديمقراطية “بحاجة إلى التدريب والتجهيز للرد على الخلايا التي تحاول إحياء داعش”. الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والأمن، والتي تتوقع تدريب 110 ألف من القوات المحلية، لا تزال مستمرة ولكن متوترة بسبب السياسات المتناقضة. إن الجهود الأمريكية الرامية إلى إقناع ألمانيا أو فرنسا بالالتزام بقوات من أجل تغطية انسحاب الولايات المتحدة البطيء ودعم منطقة آمنة لم تثمر عن شيء بعد، ومغادرة شرق سوريا الآن يعني خلق فراغ ويعطي “داعش” مساحة للتنفس، وهذا يعني أيضًا التخلي عن الشركاء على الأرض، ما يقلل من نفوذ الولايات المتحدة.ظهرت سياسة أمريكية ثانية في سوريا في خريف عام 2018، وعلى الرغم من أن إدارة “ترامب” أعلنت أنها قضت على “داعش”، إلا أن مستشار الأمن القومي جون بولتون قال إن الولايات المتحدة ستبقى في سوريا حتى تغادر إيران. يدرك المسؤولون أن السيطرة على قطاع من سوريا، بما في ذلك قاعدة عسكرية في “التنف” بالقرب من الحدود الأردنية، يضع ضغطًا على دعم إيران للنظام السوري وترسيخ نفوذها في سوريا. كما أن وجود أمريكا يعيق سلاح الحرس الثوري الإسلامي، ويمنعه من توسيع أنشطته في جميع أنحاء العراق وسوريا، ويعد هذا مصدر قلق رئيسي لإسرائيل التي نفذت أكثر من 1000 غارة جوية على أهداف إيرانية في سوريا لوقف الدعم الإيراني لحزب الله.

انتقدت تركيا دور الولايات المتحدة في سوريا، متهمة إياها بتدريب الإرهابيين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني (PKK) وإنشاء “ممر إرهابي” يهدد أنقرة. حاولت “واشنطن” تخفيف حدة غضب أنقرة، وفرضت مكافأة على ثلاثة من قادة حزب العمال الكردستاني في عام 2018 وأعلنت الموافقة على العمل المشترك مع تركيا في منطقة آمنة على طول الحدود السورية. لكن التوترات مع تركيا تشمل مشاكل أخرى، ربما أكبر، مثل اقتناء أنقرة لنظام الدفاع الجوي الروسي إس 400. بعض هذه المتناقضات تنبع جزئياً من رؤية تركيا الخافتة للسياسة الأمريكية في شرق سوريا. في هذه العملية، أصبحت روسيا وتركيا أكثر قربا، كما تفتخر إيران الآن بعلاقاتها المتنامية مع تركيا. وقد هددت أنقرة مرارًا وتكرارًا خلال العام الماضي بشن عملية عسكرية في شرق سوريا حيث تتمركز القوات الأمريكية، قائلة إنها أبلغت “موسكو” بنواياها. وحذرت الولايات المتحدة من القيام بعمل أحادي الجانب في 6 أغسطس/آب ووعدت ببذل المزيد لإنشاء “منطقة آمنة” لتركيا. هذه الحلول قصيرة الأجل، وكانت “واشنطن” حذرة من لعب دور أكبر، على الرغم من تأثيرها على الأرض. في هذه الأثناء، تجتمع إيران وروسيا وتركيا بانتظام في إطار محادثات أستانا للسلام بشأن سوريا، دون حضور الولايات المتحدة. وقد أصبح شرق سوريا الآن مفصلًا يفتح أو يغلق الباب أمام النفوذ الأمريكي في المنطقة، حيث يرتبط الأمر ارتباطًا وثيقًا بالاستقرار في حكومة إقليم كردستان في العراق، وهي شريك أمريكي وثيق.

حلفاء أمريكا مثل الإمارات العربية المتحدة، الذين تتعارض سياساتهم الإقليمية مع تركيا وقطر، يعارضون رغبة تركيا في إطلاق عملية عسكرية. وتقول صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية: “لا يوجد عذر للسيطرة التركية على الأراضي السورية”، ولكن يبدو أن البيت الأبيض لا يريد “حرب أبدية” أخرى مثل أفغانستان.لم تعد المناطق من الرقة إلى القامشلي في سوريا مجرد منطقة يجب أن تستقر في ظل محاولات إحياء “داعش”، أو منطقة تستخدم كورقة مساومة مع إيران. إنها منطقة قابلة للاحتراق للغاية لأي سبب بسيط إن موسكو وطهران ودمشق متلهفة لإذلال أمريكا وتسعى إلى استغلال التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا. وسيشهد حلفاء واشنطن، من الخليج إلى إسرائيل، نكسة إذا انسحبت الولايات المتحدة فجأة.

وهذا يعني أن الولايات المتحدة لديها أيضًا نفوذ على هؤلاء الحلفاء ويمكن أن تشجع على زيادة المشاركة من جانب الرياض أو أبوظبي، لدعم الاستقرار وإعادة الإعمار، كما إنهم يعارضون أيضًا نفوذ إيران المتنامي، وهم على خلاف مع تركيا، لذلك من المهم بالنسبة لهم الحفاظ على الوضع في شمال شرق سوريا.إن الاعتراف بشرق سوريا على أنها فصل مهم في تاريخ الصراع، هو أفضل طريقة لفهم التحدي طويل الأجل هناك. إنها الأصل الاستراتيجي الأهم في الشرق الأوسط التي تستند إليه طموحات القوى الأربع، وحيث سيتم ترسيخ أو كسر استراتيجية الولايات المتحدة.

سيث فرانتسمان | مجلة نيوزويك |

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

زر الذهاب إلى الأعلى