تقاريرمانشيت

سياسة جو بايدن في الشرق الأوسط بين المثالية والواقعية

حكم اليوم اتجاهان علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالشرق الأوسط، هما:
1 ـ اتجاه يرى أنّ منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، وربما منذ إدارة أوباما، شهدت تراجعاً في أهميتها الاستراتيجية، وبدأ التحول في الاهتمام منها إلى آسيا، وهو ما يُعرف بالتحوّل إلى آسيا. ويعود ذلك إلى أنّ أهمية نفط الشرق الأوسط انخفضت بالنسبة إلى الولايات المتحدة بعد أن اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطاقة، أو أنّ الولايات المتحدة توسعت في استخدام البدائل الجديدة للطاقة، أو أنّ الفرص والمخاطر في آسيا أصبحت أكبر نتيجة اتساع الأسواق الآسيوية التي تمثل فرصاً كبرى لتصدير المنتجات الأميركية إليها، أو نتيجة الصعود الصيني الذي يمثل خطرًا على المصالح الأميركية في القارة الآسيوية.
2 ـ يحذّر اتجاه آخر أنصاره من الانسياق وراء المعطى القائل إن الولايات المتحدة، بوصفها أكبر منتج عالمي للنفط حاليّاً، لم تعد تعتمد على استيراد النفط على نحوٍ ينفي الحاجة إلى استمرار بقائها في الشرق الأوسط. ويشددون على أنّ الشرق الأوسط يبقى أكبر مصدر للنفط في العالم، وهو مهم بالنسبة إلى استقرار الأسعار. كما أنّ هذه المنطقة أكبر مصدّر للنفط إلى الصين، منافس الولايات المتحدة الرئيس. ثمّ إنّ أيّ فراغ في المنطقة، سيقود إلى تحولات جيوستراتيجية عميقة فيها، وفي سائر أنحاء العالم أيضاً، ومن ثم ستحاول الصين وروسيا ملأه، وهذا ما يبيّنه الدور الروسي في سورية، والنفوذ الصيني المتزايد في إيران .
على الرغم من مساعي الإدارة الأميركية لتقليل الانخراط في منطقة الشرق الأوسط، ونقل محور التركيز إلى آسيا والمحيط الهادئ، فإنّ التحولات التي تشهدها المنطقة تثبت أنّ القوات والموارد الأميركية، إن لم تكن المصالح الأميركية المباشرة، لا تزال تواجه فيها أكبر المخاطر. ولهذا تعمل إدارة بايدن على الموازنة بين التوجه نحو آسيا وإعادة تخصيص الموارد الأميركية للقضايا الشرق أوسطية الأكثر إلحاحًا، التي سيكون تحقيق تقدّم فيها بوابة لتحقيق إنجازات في قضايا أخرى. وكذلك نقل العديد من المهمات، سواء الأمنية أم السياسية إلى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، في ظل سعي إدارة بايدن للحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية بحلفائها وتعزيز الشراكات الإقليمية التي تُعدّ إحدى ركائز السياسة الخارجية الأميركية الاستراتيجية، ولا سيما في وقت تسعى الإدارة لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات النووية، والتوسط في السلام بين الحكومة اليمنية وميليشيات الحوثي المدعومة من إيران.
تؤمن إدارة بايدن بأنّ الانسحاب الأميركي من المنطقة وعدم الانخراط في أزماتها، سيخلقان إشكالياتٍ وتحدياتٍ تفرض على الولايات المتحدة إعادة الانخراط المكثف مجددًا فيها، وتخصيص موارد أكثر من ذي قبل للتعامل مع تداعيات هذا الانسحاب الذي لا يؤثر في مصالح حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة وأمنهم فحسب، بل في مصالح أميركا وأمنها، ولا سيما مع تحوّل المنطقة إلى ساحة للمنافسة مع خصومها الاستراتيجيين الدوليين والإقليميين. ويمكننا تلخيص أهم تحديَين تواجههما الإدارة الأميركية كالآتي :
التحدي الأول: من الصعب أن تنسحب الولايات المتحدة نهائيًا من منطقة الشرق الأوسط من دون أن يكون لهذا الانسحاب عواقب على مصالحها. فالولايات المتحدة لها مصلحة ملحّة في هذه المنطقة نظرًا إلى المشكلات التالية: تنامي النفوذ الروسي، وطموحات إيران في الهيمنة، وعودة المنظمات الإرهابية، وعدم الاستقرار السياسي والعنف الذي ساد المنطقة. وهذه كلها مشكلات حقيقية تواجه الإدارة الأميركية. صحيح أنّ الولايات المتحدة تحاول أن تطلب من حلفائها في المنطقة أن يبذلوا جهدًا أكبر في التعامل مع مشكلاتها (المنطقة)، لكن يتضح أنّهم غير قادرين من دون دعم أميركي كبير.
التحدي الثاني: من المرجّح أن تتبع عمليات الانسحاب الأميركي المتسرعة من المنطقة، عمليات إعادة متسرعة. فالولايات المتحدة غادرت العراق في عام 2011، وكادت أن تؤدي تلك الخطوة المتسرعة إلى انهيار الدولة العراقية التي أصبحت على المحك، وبرز تنظيم داعش، وكان التدخل العسكري الطارئ للولايات المتحدة ضروريًا لإصلاح ذلك. لكن لم تستطع هذه العودة إصلاح ذلك الضرر الناتج من الانسحاب غير المسؤول من المنطقة.
في النتيجة، سيكون لأيّ انسحاب أميركي من المنطقة اليوم، تداعياتٌ وعواقبُ كبرى، ومن ثم، سيكون الضغط للعودة إلى المنطقة والقيام بعمل عسكري حاسم مكلفًا جدًا، أيضًا.
لهذا تبنّت إدارة جو بايدن استراتيجية “الموازنة” بين سياساتها لمواجهة منافسة القوى العظمى عالميًا، والمصالح والأهداف الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وكذلك الموازنة بين الأداة الدبلوماسية والعمل العسكري، وإن كان بايدن سيجد صعوبة في الحفاظ على هذا التوازن بين المثالية (القيم والمبادئ) والواقعية والمصالح والأمن)، مع ظهور تحديات جديدة في المنطقة.
هكذا، يتضح أنّ بايدن يحاول المواءمة في سياساته الشرق أوسطية بين المثالية التي تؤكد أهمية القيم الأميركية في السياسة الخارجية، خصوصًا الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والسياسات الواقعية التي تراعي المصالح الأميركية العليا في هذه المنطقة المهمة من العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى