مقالات

سوريا والعراق، كركوك وقامشلو . . مُمْكِنات الوصل، ومُستوجبات الفصل

سيهانوك ديبو

مؤخراً؛ بالذي جرى في كركوك؛ ليس بالنقطة المناسبة كي تكون خاتمة تُنهي بها أكثر القضايا مفصلية في التاريخ الحديث أي قضية الشعب الكردي. إنما يصلح كي يكون البداية المُكلِفة أو تكلفة العثور على السكة المؤدية إلى الفهم المغاير لما سبق. وإذا ما تحدثنا بلغة الأرقام، يمكن القول بأن محصلة سبع سنين سابقة هي خمس رؤساء عرب تم تنحيتهم من كرسيِّ السلطة وبدور أساسي لإرادة الشعب المنتفض، بطبيعة الحال لم يقفل الحساب في ذلك؛ والمتوقع يشير بأن العدّاد لن يتوقف. ومن جهة أخرى فإن المحصِّلة تشير إلى إنهاء الحياة السياسية في تركيا التي هي اليوم دولة عسكرتارية تتخبط وفق قوانين الطوارئ لبلد طارئ، لبلد يحتل أجزاءً من الدول المحاطة به. المحصلة أضافت إلى صندوقها ما يجرى في إقليم كردستان العراق؛ وصلت الذروة؛ لأكثر من اسبوعين منصرمين؛ إلى تنحية الرئيس مسعود بارزاني، الأخير الذي دعا إلى استفتاء الاستقلال –وافقته أغلب الكتل السياسية على مضض- من دون امتلاك الدعائم القانونية والأهم منها من دون أن يكون الوضع الداخلي مستقرٌ إنما بالمتأزم، واليوم ينتقل إلى التأزم الكثيف.

أخطاء لحظية بالجملة

الارتجال في السياسة يعني بالضرورة بأن المرتجل مفعم بالرغبة لا بالتفكير؛ تمتلكه الأحاسيس بدلاً من التحسس، ويعني أخيراً عدم أهليته في هذا المجال.

ما حدث في إقليم كردستان العراق؛ من الخطأ تسميته بالنكسة أو الهزيمة، مع العلم من استخدام هذا بوفرة عند (النخب) السياسية لمكونات الشرق الأوسط برمتها؛ من منا لم يسمع بذلك في الخطاب الموجه للنخب السياسية العربية؟ يُعْتَقَد بأن التركياتيات منذ تأسيس تركيا حتى اليوم وبمختلف ألوانها (البيضاء؛ الخضراء، والسوداء هذه الفترة) يشغِّلونها بوفرة وبكثرة. ربما من صحيح القول بأن الكتل السياسية لجميع الشعوب من عشّاق استخدام هذه المصطلحات من باب تبرير فشلهم وتعندهم في المسار الذرائعي.

إذاً من الخطأ تسميته بالمؤامرة ومن الصواب تسميته باليقظة وانقشاع ما منع الرؤية الصائبة وما جعل الآذان تتوسع على أنغام معينة.

وأن ما حدث مؤخراً ولن يتوقف؛ ينبأ على الأقل بولادة الأفكار الجديدة؛ الجديدة التي تدفن القديمات. كما أنه من الخطيئة أن يتم جرّ الفشل في إقليم كردستان العراق وربط مصيره على إقليم شمال سوريا/ فيدرالية سوريا الديمقراطية؛ في الوقت الذي بات الشخصية الاعتبارية التي تكتسبها هذه الفيدرالية يكون قريباً.

 ما حدث أو يحدث في إقليم كردستان العراق نتيجة منطقية لتفاعل واستقطاب وتفريغ الحالة السياسية ليس في إقليم كردستان فقط إنما في العراق أيضاً. أزمة العراق سياسية ولم يتشكل حتى اللحظة الإرادة الكافية التي تضمن حل مشاكل العراق؛ بالعكس نرى في أغلبها مُسيّرة ضمن خانة الرغبتين الإقليمية والدولية، والسير بها وبالمنطقة نحو المزيد من الفوضى. القضية بمجملها لا تتوقف عند كركوك وحدها؛ إنما متعلقة بقضية أساسية يكمن بالأسلوب والفهم غير الدقيق لتشكيل عراق وتشكيل إقليم كردستان متوسع على كافة المكونات وتمثيل كامل لإرادتهم. أعتقد بأن الخيبات تتوالى ولن تقف عند هذا الحد؛ فيما لو لم يتم سلك طريق جديد لحل القضايا في مقدمتها حل القضية الكردية وفي الوقت نفسه تشكيل الانتماء الوطني. نكررها هنا أيضاً عملية الاستفتاء وكل عمليات الاستفتاء التي تمثل إرادة الشعوب هي خطوة شرعية ندعمها وندعم ما يتلوها من خطوات شرعية. لكن نكرر في الوقت نفسه أن ربط مفهوم وعملية الحرية بتشكيل دولة قومية محضة هي من المقاربات الخاطئة التي أثبتت التجربة طيلة قرن كامل بأنها غير ملائمة في الشرق الأوسط.

الصيغة الممارسة والتجربة ما بعد 2003 وما قبلها بعشر سنوات؛ طُرحت من خلالها إقليم كردستان العراق وقدمت نفسها على الملاً في وجود إدارتين بقوتين عسكريتين. وما تلى ذلك من أمور غير مبشِّرة كما في مثال البرلمان غير الفاعل/ المتوقف نهائياً، أو العلاقات التي تحصّلت وظهرت بشكل متعارض، وبشكل فئوي، وبشكل لا تفيد حتى الأجندة الحزبية الواحدة، وغيرها من الأمور التي تتعلق بتشكيل واحدة السياسة الاستراتيجية المتوحدِّة لإقليم كردستان العراق. بالإضافة إلى أن استتباب الأمن والاستقرار في الإقليم وفي أيِّ منطقة تظهر فيها الخصوصية الكردية من نواحي السياسة والاقتصاد والاجتماع باتت شائنة أو مقطوعة أو لنقل ظهرت بخيط رفيع؛ ينقطع ويُعْقَد، أي فيما يتعلق بعدم عقد مؤتمر وطني كردستاني يهدف إلى توحيد المجتمع الكردستاني ووضع استراتيجية تؤكد وتنتمي إلى شرق أوسط آمن؛ ينجم عنه أفضل الصيغ لنظام سياسي تنعم فيه المكونات السياسية على أفضل تمثيل. وأيضاً لجميع شعوب المنطقة. هذه الأمور المفصلية أنتجت ما حدث في مناطق شهدناها على النحو غير الملبيِّ والمؤسف. القوى السياسية في إقليم كردستان تتحمل سبب ما آلت إليه الأمور مؤخراً. وإن كانت هذه المسؤولية بنسب متفاوتة، والبحث عن الحلول انطلاقاً من هذه القناعات هي الأفضل وهو الواقعي. والبحث عن الحل أفضل بكثير عن الوقوف عند الأسباب وحدها. على الأطراف السياسية في العراق تقوية حالة التوافق وحل المشاكل العالقة؛ غير ذلك نراه مهدداً للمكتسبات المتحققة.

هل نتوقع ان تتخلى امريكا عن دعمها السياسي والعسكري بعد القضاء على داعش كما جرى في الاقليم؟

سؤال يُطرح بكثرة، والذين يطرحونه متعددي الجهات، سوريّة وإقليمية وعالمية، ومن الكرد أنفسهم، ومن الذين يفتشون بالمجهر عن أي شيء يؤدي بالتعكز عليه والرغبة في إفشال مشروعنا الديمقراطي المتمثل بالفيدرالية الديمقراطية، على أساس الجغرافي وعلى أساس إرادة مكونات شعوب شمال سوريا؛ على أساس أن حل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً يتحصن وفق دستور توافقي قابل لقراءة واحدة تنتمي وتنميّ إرادة الكرد كشعب وكحقيقة سياسية وثقافية وتاريخية في سوريا والمنطقة كلها.

هنا؛ من المهم الإفادة والإدراك بأنهما مشروعين مختلفين. ربط ما يحدث في إقليم كردستان العراق بالوضع ذي الحالة المتقدمة في شمال سوريا وروج آفا نعتقد بأنه مقارنة غير سوية. لا يوجد ما يشير بأن أمريكا –على سبيل المثال- قد تخلت في الفترة الأخيرة عن حلفائها من الأخوة في إقليم كردستان. والشيء نفسه يمكن القول فيما يتعلق بروج آفا. هذا إذا ما أخذنا بالأساس المزيد من التشكيك بمصطلح التخليِّ كمفهوم لا يوجد له محل في محل العلاقات الدولية. راعيي حل الأزمة السورية أي واشنطن وموسكو لهما رؤى تناسبهما، وما تقومان به، اجراء التطويع والتقاطع ما بين المصالح. لنا المصلحة أن يتقاطع مشروع الفيدرالية الديمقراطية مع المصالح الحيوية للدولتين ولأوربا وللمحيط الإقليمي وبالأخص العربي. ويهمنا أكثر بأن أي مشروع –مثال الفيدرالية في سوريا- أن يؤدي إلى تأسيس الأمن والاستقرار ليس فقط في سوريا وإنما في الشرق الأوسط برمته.

نعتقد بأن تفسير جميع الأمور التي تصادف مسيرة الشعوب في خانة المؤامرة هي مؤامرة بحد ذاتها. لنسأل أنفسنا ما الذي فعلناه كي لا نكون عرضة للعبة الأمم. الإجابة تبدو قوية اليوم في مثال شمال سوريا وروج آفا وإفشال المحاولات التي تريد القفز أو تحجيم أو تهميش الحل الديمقراطي ومشروع الفيدرالية الذي بات بحكم الواقع والحقيقة والحل الناجع؛ المحاولات كثيرة ولم تزل جارية. ما فعلناه في روج آفا وشمال شرق سوريا أننا انطلقنا من إرادة المكونات واستطعنا إلى درجة كبيرة في تمثيل تطلعاتها المشروعة. ولأن الأمر هو كذلك؛ فقد استطعنا نحن والتحالف الدولي العربي / 83/ دولة من تشكيل حلف معلن ضد الإرهاب؛ مثل هذا الحلف يجري في سياقه الصحيح حتى اللحظة؛ ولا يوجد شيء ملموس يعكِّر مسار وصفوِّ هذه العلاقة الصحيّة. وأن مرحلة ما بعد داعش وتجفيف منابعه وضمان عدم عودته وظهوره في صيغ جديدة؛ يكاد يكون متعلق بإنجاح مشروعنا الديمقراطي وتأثيره الحاسم في حل الأزمة السورية، وما يتلو ذلك إلى تهيئة معافية للحلول التي تلزم في بلدان الجوار.

القولُ بإيجاز

تاريخ البشرية يُقَدِّم نفسه بِحسبِ العقول والأيادي المتعاملة مع الجغرافية. يكاد يكون بمثابة خلاصة التجارب الأنسية المارّة في بوتقات مَمْرورٍ في حيثياتها كل فعل تاريخي؛ بغض النظر عن هل كان فعلاً/ أفعالاً إيجابية أمْ العكس. هناك من يلخص النتيجة بأنها متعلقة بأن من يفرض الوقائع يفرض الحقائق؛ وهذا من منطق العسكرة والقتال فقط، علماً بأن الحقائق يمكن تغييّبها ردح من الزمن، دون أن يعني ذلك أنها الحقيقة. الحقيقة هي مجتمعية، والمجتمعيّة يلزمها قوة أمن يحميها، دون ذلك مجرد نظريات تتآكل ويصيبها العفن والزوال. بعكس مشروع الأمة الديمقراطية التي تنجح، والسياقات المنطقية لمثل هذا النجاح تشير بتحوّلها إلى حقيقة يستفيد منها الجميع ويخرج منها الجميع منتصرين. ويؤدي من خلاله إلى شرق أوسط ديمقراطي آمن.

في شمال سوريا؛ فإن حَمَلَة المشروع الديمقراطي محكومون بتقوية المشروع. وممارسة أقصى حالات التوسع والانفتاح على الآخرين والتوافق معهم كي يكونوا فاعلين أيضاً في مشروع الفيدرالية وهيئتيها التنفيذية والتشريعية؛ وفاعلين في مجلس سوريا الديمقراطية. العمل على تذليل كل ما يعيق انعقاد المؤتمر الوطني الكردستاني. الانفتاح على جميع الأطراف السورية المؤمنة بوحدة سوريا وبالحل الفيدرالي الديمقراطي. أمور كثيرة تصُّب في أن الذي فعلناه حتى اللحظة ليس هو النهاية؛ إنما البداية الناجحة التي تخدم شعوب المنطقة برمتها وتؤكد علاقاتها التاريخية، عيشها ومستقبلها المشترك.

زر الذهاب إلى الأعلى