مقالات

سوريا؛ الهوَّة بين الحرب والسلام

دوست ميرخان

لم يعش السوريون أي شكلٍ من أشكال التعددية السياسية قبل حدوث الأزمة حيث سيطر حزب البعث على كل مفاصل الدولة وأصبح الحزب الذي اتخذ من الجانب القومي شعاراً يُمارس تحت ظله كل اشكال الإقصاء والإنكار ويتخذ من محاربة الأطراف السياسية الأخرى استراتيجية في تفرقة أبناء المجتمع الواحد،  كما بث العنصرية والكراهية تجاه الآخر المختلف والمخالف لسياسته، ونتيجة المعالجات الخاطئة للسلطة السورية التي جعلت من الحزب قائداً للدولة والمجتمع تحولت الدولة السورية إلى بوتقة لصهر كل الأطياف السياسية والثقافية والاثنية التي ميزت سوريا في بوتقة الحزب الواحد والأيديولوجية السياسية القوموية الواحدة، وهذه البوتقة تحولت مع مرور الزمن إلى بؤرة للفساد وللتسلط و الطبقية، وشكل هذا العامل السبب والركيزة الأساسية للأزمة التي تعايشها سوريا في المرحلة الراهنة.

بعد ثماني سنوات من الحرب والدمار، لم يستفد قيادات الحزب والمتشدقين برسالتهم (التي لم تكن هي أيضاً سوى شعارٍ لأهداف سلطوية لم تكن للشعب العربي أي وجودٍ فيه ولم تكن تمثل سوى هوية ومآرب السلطة) من الحالة التي تعيشها سوريا ومحاولة أخذ العبرة من التجارب السابقة وما يحدث على الأرض السورية؛ في أن يغيِّر من سياسة الحزب، لا بل بقي بتلك المستوى من الذهنية العكرة، وبدلاً من أن يستفيد من دروس الأزمة اتخذ من المنحى ذاته أسلوباً في معالجته لمتطلبات المرحلة الراهنة.

يبدوا إن ثقافة تقبل الآخر والمخالف سياسيًّا على الأقل ليس وارداً في قاموس تنظيم حزب البعث والسلطة الحاكمة، لذا وفي ظل هذا الانغلاق يتضح لنا بأن المستقبل في سوريا لايزال غامضاً ورهناً لهذه العقلية التي لا تخدم سوى قوى السلطة والهيمنة الاقليمية والدولية، وسيكون من الصعب الحديث عن حوارٍ أو تفاهمٍ جدي أو عن أي شكل من أشكال الانفتاح السياسي بين النظام السوري المتمسك بعقلية البعث والأطراف السياسية الوطنية السورية التي تصر على الحوار السوري السوري وعلى إن الحل يجب أن يكون من الداخل السوري وبإرادة سورية.

 لذا فالمنطلق الأساسي لأي انفتاح أو انفراج سياسي للأزمة يجب أن يكون أولاً بتغيير بنية التفكير السياسي للنظام نحو الداخل وفصل البعث عن قيادة الدولة.

وثانياً التأسيس لحياة دستورية جديدة تكون فيها الاعتراف القانوني والدستوري بالتعدد السياسي، ويكون هو الضامن والضابط للحياة السياسية  أي (دولة تحكمها القانون الديمقراطي وليس سلطة أيديولوجية اقصائية).

من هنا فالحديث عن حياة سياسية حقيقة مبنية على أسسٍ ديمقراطية ستسهم حتماً في الخروج من البوتقة والقوقعة الحديدية والتوجه نحو عملية سياسية بناءة في سوريا.

أما الحديث عن القوى الاجتماعي للدولة السورية والحاملة للثورة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً فهي التي بَنَتْ وأسست سوريا قبل البعث وحتى بعده، وبالتالي للقوى الاجتماعية الوطنية السورية  ميراث ثوري وحقيقي لا يستطيع أية قوة تجاوزها أو القفز من فوقها، بالرغم  التباين المرتبط بظروف المراحل التاريخية، وهذا بدوره أثر على الأداء السياسي بصورة عامة في تلك المراحل.

فخلال المرحلة الفرنسية وحتى بعد الاستقلال بفترة قصيرة تبلورت الشخصية الوطنية السورية والدليل الأكبر على ذلك هي المؤسسة العسكرية التي تنوعت فيها الاثنيات والثقافات وتوحدت لتشكل في نهاية المطاف وعاءً للشخصية الوطنية السورية.

لكن مع تسلط البعث على الدولة السورية بدأ بكسر هذا الوعاء وعمل على قمع الشخصية الوطنية السورية وبدأ بصناعة وتكوين الشخصية البعثية المعروفة بذهنيتها، و بالتالي شكل هذا الواقع أحد التحديات الكبرى لمفهوم التعددية السياسية والتعايش والمساواة بين المكونات، وهذا أدى في نهاية المطاف إلى اختلالٍ في التوازان الاجتماعية  التي يجب النظر إليها بجدية في عملية التحول الديمقراطي التي تسعى إلى تحقيقها القوى الثورية المجتمعية السورية المنظمة.

كما لا يمكن تجاوز الحالة الثقافية التي ارتبطت وبشدة مع الحالة الاجتماعية المتنوعة والمتعايشة في سوريا.

المجتمع السوري مجتمع متعدد اللغات والأديان وأنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي مجتمع متعدد الثقافات أيضاً، وهذا التعدد الثقافي شكل “العقبة الكبرى” أمام حالة السلطة الفردية التي تعتمد في أساسها على فرض ثقافة واحدة على كل الثقافات الأخرى وهذه الثقافة ليست متعلقة بالمجتمع بالرغم من صياغتها على أنها ثقافة الأكثرية.

 من هنا فإن الاحترام المتبادل بين الثقافات يرسخ الهوية الوطنية من جانب وبالتالي يعزز من مفهوم الانتماء ويبني لاستقرارٍ مستدام، والعكس ينجم عنه بالضرورة غياب الاستقرار الذي يؤمن التعايش بين مكونات الدولة المختلفة.

 حقيقة لم يُتح للمجتمع السوري فضاءات حرة وديمقراطية للحوار بين المكونات التي تنتمي إلى مختلف الثقافات، للوصول الى ثقافة وطنية سورية ديمقراطية تقر بالتعدد وتحترمه، وتتيح له كافة المجالات للنماء والازدهار، بعيدًا عن القمع والهيمنة والتسلط بحجة الحفاظ على الدولة ووحدتها، والتي كانت نتيجتها هيمنة نهج وتفكير ثقافي قائم على الأنا السلطوية، كما لم يمنح هذه الثقافات الإحساس بأنهم شركاء في وطنٍ أساس التعامل فيه المواطنة والتساوي بين كل الأفراد والجماعات الاثنية والدينية والثقافية.

 حقيقةً البحث عن السلام  والحل والحوار يحتاج إلى بيئة سليمة تتوفر فيها معايير وتوجهات مبنية  على الاعتراف بالآخر أي التعدد بكافة أشكاله وعلى الانتماء الحقيقي للوطن السوري، لذا فأن أي مشروع للسلام لن يكتب له النجاح والديمومة ما لم يكن قائماً على الأسس الديمقراطية والوطنية.

زر الذهاب إلى الأعلى