مقالات

دور ومكانة تركيا في إطار مبادرة “حزام واحد، طريق الواحد” (التحديات والفرص)

إن العالم الحديث مقبلٌ على تغييرات كبيرة، فالنظام الأحادي القطب للعلاقات الدولية – بقيادة الولايات المتحدة – يمرّ بأوقات عصيبة، وتظهر مراكز جذب جديدة على المسرح العالمي، من بينها الصين، التي تحتل حالياً مكانة خاصة، وتدّعي اليوم أنها زعيمة العالم، حيث كان الإعلان عن مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” في عام 2013، محاولةً حاسمةً لذلك.

حزام واحد، طريق واحد

مبادرة “حزام واحد ، طريق واحد” (OBOR)، هي واحدة من المشاريع الجيوسياسية الأكثر طموحاً في تاريخ البشرية. تمر طرقها في القارة الأوراسية، وتغطي معظمها، ونتيجة لحقيقةِ أن أفكار ورؤية هذه المبادرة واسعة جداً، فقد تطور هذا المشروع إلى مفهوم واسع النطاق، لديه القدرة على تغيير الوضع الجيوسياسي في العالم بشكل جذري في المستقبل.

بالنسبة لأهمية هذه المبادرة، من الضروري الإشارة إلى حقيقةِ أنّه في عام 2019، حضر المنتدى الثاني “حزام واحد، طريق واحد” ممثلون عن حوالي 150 دولة، وشارك فيه رؤساء 37 دولة حول العالم، ووقّع 124 بلداً و29 منظمة دولية اتفاقيات تعاون في إطار المبادرة. وبالتالي، فإن المساحة الإجمالية للمشاركين في المشروع تتجاوز 57 مليون كيلومتر مربع، ويبلغ عدد السكان حوالي 4.2 مليار نسمة، وإجمالي الناتج المحلي حوالي 22 تريليون دولار (66٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي).

اكتسب هذا المشروع شعبية كبيرة، كبديل للهياكل المالية الغربية، حيث لعبت الولايات المتحدة وحلفاؤها دوراً كبيراً في إنشاء تلك الهياكل؛ بالإضافة إلى ذلك، تنظر الصين بشكل أساسي إلى مصالحها الاقتصادية، ولا تركز على المشاكل داخل أي دولة عند تقديم المساعدة المالية لتطوير مشروع ما في أي بلد، وهذا ما يميزها عن الولايات المتحدة، التي تلعب فيها قضايا حقوق الإنسان والحريات – أو على الأقل اتباع سياسة مفيدة لواشنطن – دوراً مهماً. نتيجة لذلك، ولأن الصين لا تهتم بالمشاكل الداخلية لأي دولة، فإن هذه المبادرة تتيح فرصة للتنمية، للبلدان المهتمة باتباع سياسة خارجية مستقلة، بما في ذلك تركيا.

تركيا و”الممر الأوسط”

تُبدي تركيا اهتماماً كبيراً بهذا المشروع، حيث لوحظ ذلك في مشاركة الرئيس التركي  أردوغان في منتدى “الحزام والطريق” الأول، ثم أن تركيا ستكون إحدى طرق العبور الرئيسية بين الشرق والغرب، وهذا ما أدى إلى إنشاء مشروع “الممر الأوسط”، الذي من المفترض أن يصبح واحداً من مكوّنات مشروع “حزام واحد، طريق واحد”.

إن مشاركة تركيا في هذه المبادرة، يمكن أن تعطي دافعاً لتنمية الاقتصاد التركي، الذي يعاني أصلاً من ارتفاعٍ في التضخم، وستعني المشاركة أيضاً سياسة خارجية نشطة لتركيا، تتطلب ضخ كميات كبيرة من الموارد، كما سيسمح ذلك لأنقرة بتنويع توجّه السياسة الخارجية للبلاد، خاصة بعد تعميق الخلافات مع الشركاء الغربيين، عن قضايا تتعلق بأزمة الهجرة، والخلافات المتعلقة بالقضية الكردية، وإحجام الولايات المتحدة عن توريد الأسلحة .. إلخ، ويجب أن لا ننسى أن استثمارات الصين ستدعم البنية التحتية التركية، ومشاريع الطاقة، وإعطاء حافز لتنمية اقتصاد البلاد، بتعزيز نفوذها في المناطق المجاورة.

نقاط إشكالية

هناك قضايا إشكالية في العلاقات الثنائية بين تركيا والصين، والمثال الأكثر وضوحاً على ذلك، هو “قضية الأويغور” التي تشكّل إحدى العقبات الرئيسية أمام تطوير العلاقات مع الصين؛ حيث تعتبر تركيا نفسها زعيمة الشعوب التركية، ويعيش هناك عدد كبير من هذا الشعب، ولم يتم إغلاق ملف هذه القضية، حتى بعد توقيع قادة البلدين على معاهدة تسليم المجرمين في عام 2017، لأن البرلمان التركي لم يصادق عليها.

إلى جانب ذلك، هناك مشكلة أخرى في العلاقات الثنائية بين تركيا والصين، وهي عدم تكافؤ العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، فتركيا تستورد من الصين أكثر بكثير مما تصدره هناك، مما يزيد من اعتمادها الاقتصادي.

إشكالية أخرى يمكن إضافتها، وهي وجود طرق أخرى تسمح للبضائع الصينية بالوصول إلى الدول الأوروبية، وهذا يعني أن تركيا لن تكون الممر الوحيد للبضائع الصينية، ثم أن الجزء الأكبر من هذه البضائع يتم نقله عن طريق البحر. لذلك، على الرغم من أن الصين مهتمة بتطوير “الممر الأوسط”، إلا أن وجود طرق أخرى، لا يسمح لتركيا بأن تصبح واحدة من المشاركين الرئيسيين في المشروع.

هناك مخاطر على الصين أيضاً، فبالإضافة إلى الخلافات حول “قضية الأويغور”، هناك نقاط أخرى يمكن طرحها. فعلى الرغم من الاهتمام الكبير لأردوغان بتطوير العلاقات مع الصين في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، فإن مثل هذا الاتجاه للسياسة الخارجية التركية لا يبدو مستداماً، وستلعب الانتخابات الرئاسية في تركيا عام 2023 دوراً كبيراً في العلاقات التركية الصينية الحالية، حيث أن شعبية الزعيم الحالي لتركيا بدأت تنخفض على خلفية المشاكل الاقتصادية، وإذا وصل حزب “الشعب الجمهوري” إلى السلطة، فإن السياسة الخارجية للبلاد قد تتحوّل إلى منعطف، وبعد ذلك سيبدأ التعاون مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة، التي تثير الصين معها التنافس على المسرح العالمي.

بالنظر إلى ما سبق، سنجد أن تركيا – حينها – سوف تأخذ مسار المواجهة مع الصين، لذا، فإن هذا لا يسمح لبكين بتعميق التعاون مع أنقرة، كما هو الحال مع طهران، التي تم توقيع اتفاقية استثمار معها بلغت 400 مليار دولار، والتي لا تملك القدرة على تحقيق التوازن بين الولايات المتحدة والصين، على عكس تركيا.

ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن السياسة الخارجية النشطة لأنقرة في المناطق المجاورة لها (العمليات العسكرية في سوريا والعراق، والدعم النشط من أذربيجان خلال حرب كاراباخ 2..الخ) وزعزعة استقرار الوضع، يجعل الاستثمارات محفوفة بالمخاطر، ولا توجد مؤشرات -حتى الآن – على أن القيادة السياسية التركية ستتخلى عن مثل هذه الخطوات.

هناك عدد من القضايا الإشكالية في العلاقات بين البلدين. ومع ذلك، فإن المهام التي تواجه قادتهم، تشجعهم على بناء تعاون عملي في إطار مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، فتركيا تسعى جاهدة لتطوير اقتصادها، فضلاً عن تنويع سياستها الخارجية، وفي الوقت نفسه، تهتم الصين بتعميق التعاون مع تركيا، لأنها ليست فقط واحدة من أقصر طرق النقل إلى أوروبا، ولكنها أيضاً حلقة وصل محتملة لمصالحها داخل الناتو، والتي سيكون من الممكن رفض أكثر القرارات غير المقبولة لها. وبالتالي، يمكن الافتراض أن التعاون بين البلدين سوف يتعمق، وأن أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة والصين ستزداد فقط في مواجهتهما.

الكاتب ايديس دافاكاي ماجستير في الأكاديمية الدبلوماسية بوزارة الخارجية الروسية.

ترجمة د. سليمان الياس مدير مركز الفرات للدراسات.

زر الذهاب إلى الأعلى