تقاريرمانشيت

تقرير استقصائي عن حالة الفساد كمنظومة عمل للحكومة السورية

خلال الأعوام الماضية نشرت المئات من التقارير والتحقيقات حول الفساد المستشري في نظام الدولة السورية، وحسب أغلب التقارير إن منظومة الفساد داخل السلطة ومؤسساتها اصبحت سلسلة متكاملة، تصدر القوانين المساعدة لها، وتسخر أدوات الدولة لخدمتها لدرجة بات النظام السوري يعرف بنظام الفساد.

يشير تقرير لوكالة نورث برس إلى حجم الفساد المنتشر داخل أروقة الحكومة السورية ومؤسساتها الإدارية، في ظل الحالة الاقتصادية المذرية والأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد.

تفاصيل التقرير:

تحافظ الدولة السورية على ترتيبها في قائمة الدول “الأكثر فساداً”، حيث تغلغل الفساد خلال سنوات الحرب ليأتي على أغلب التفاصيل في الحياة.

وتصنف المنظمات العالمية لمكافحة الفساد، سوريا في المرتبة الأخيرة مع الصومال من حيث محاربة الفساد، وذلك بين الدول العربية والعالمية.

ويمكن للمتابع أن يكتشف أنه مع كل يوم يمر يضاف أشخاص جدد إلى قائمة “المرتشين والفاسدين” كل حسب موقعه.

وإذا كان بقاء القضاء خارج منظومة الفساد يمكن أن يحافظ على الدولة ويعيد بناءها، عقب أي حرب أو انهيار، فإن المتعاملين مع هذا القطاع في سوريا يشيرون إلى أنه من القطاعات التي ينتشر فيها الفساد حسب أشخاص خاضوا في هذا الغمار.

إن تآكل الدخل وارتفاع الأسعار جعل الصالح والطالح من السوريين يفكر بطرق تجنبه وأولاده الجوع والبرد، فالمطلوب لتأمين الحاجات الأساسية للحياة لا يقل عن 3 ملايين ليرة سورية مع أسعار تضاعفت أكثر من 1800% منذ بداية الحرب، ووسطي أجور لا يتجاوز 110 ألف ليرة.

أضرار الفساد جسيمة، على كل المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وقد فرض الفساد والفاسدين إيقاعهم وكأنه أمر طبيعي.

الحلقة الأولى

يروي شخص من ريف طرطوس، لنورث برس، ما جرى معه عند مراجعته لأصغر وحدة مكلفة بمتابعة شؤون السكان وهي بلدية قريته، للحصول على توقيع موظف فيها، وذلك من أجل استكمال معاملة ترخيص بناء.

وقال الرجل الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن “الموظف انهال عليه بسيل من التوبيخ رغم أنه يعرف سكان القرية ويعرفونه”، دون أن يعلم الرجل ما هو الخطأ الذي ارتكبه.

وعندما خرج من عنده شاكياً وجد من ينصحه بالطريق إلى حل مشاكله، وأن يضع له مبلغاً من المال ضمن الإضبارة.

وأشار الرجل إلى أنه وضع له مبلغ 10 آلاف ليرة، وعاد للموظف في البلدية بعد ساعة ليستقبله بطريقة مختلفة ويسير له أموره وكأنه تحول إلى شخص آخر غير ذاك الذي انهال عليه بالتوبيخ قبل ساعة، بحسب ما يقوله الرجل.

على الدور

يتصاعد الفساد كلما ازدادت أهمية الموقع أو المكان الذي يشغله الشخص، يقول شاب مغترب جاء زيارة إلى سوريا، إنه لم يصدق كيف يمكن للأمور أن تسير عندما تجد من يتدخل لتسييرها “بطرق الفساد المعتادة”.

 

ويشير إلى أنه أنجز معاملة تمكنه من مغادرة البلد بشكل طبيعي “بعدما تم دفع المعلوم”، رغم أنه تعرض “للتقليع” في المحاولات السابقة.

تقول إحدى السيدات في دمشق، إن المبلغ المطلوب منها لتركيب هاتف أرضي بعدما بدَّلت مكان سكنها “فاق النصف مليون ليرة”، بينما هي بالكاد تستطيع تمرير اليوم بيومه مع الراتب الذي تتقاضاه، وهذا يعني أن عليها أن تبقى على الدور كما يقولون لها مع كل مراجعة.

وقد يكون “أخطر الفساد استراتيجياً” هو انتشاره في مجال التربية والتعليم، حيث أن هنالك ظاهرة شراء المركز الامتحاني، وهذا يعني دفع مبلغ لا يستهان به من المال للقائمين على عملية المراقبة لينتهي المحظوظ من الطلاب بالنجاح بعليمات تؤهله لدخول أعلى الفروع دون أن يستحق ذلك.

أما في مجال الصحة، فقد تحولت المشافي إلى أسرّة للنوم فقط وعلى الأهل الدفع للطبيب في عيادته لكي يحصل على أي متابعة أو معالجة ضمن المشافي الحكومية.

نشرها الخاص

في السابق كانت سيرة “الفساد” الأشهر تتركز حول الليرات التي يتقاضاها الشرطي من كل صاحب سيارة، وحول الشهادات العلمية التي تحصل عليها بعض الشخصيات النافذة للتفاخر بألقاب الدكتوراه، أما الآن فنادراً ما تجد من يقوم بعمله دون أن يحقق فائدة خاصة من ذلك بما لا يدع مجالاً لوصفه “بغير الفساد”.

كانت أصابع الاتهام توجه إلى القطاع الخاص الذي يسعى لتسهيل أعماله في الدولة بتقديم الرشى للموظفين، أما الآن فغالبية الأمور أصبحت تخضع للمساومة والابتزاز.

يقول أحد التجار لنورث برس، إنه يبرر اعتماد التجار على أسلوب الدفع وتقديم الرشى لتسيير أمورهم تحت سياسة “دعه يعمل دعه يمر” التي وجد من يروج لها في الدولة، وأنه لطالما دفع لموظفين في أجهزة الدولة المختلفة، لأن مداخيلهم أيضاً غير كافية، ولكن المطلوب الآن أصبح أكبر بكثير ويصل إلى حد المحاصصة، حسب قوله.

تساهم ظاهرة الرشى المنتشرة في كل مكان بتعزيز الفصل الطبقي الصارخ في المجتمع، فأبناء الفقراء هم من يذهبون إلى الجيش، ويدفع بهم إلى الخطوط الأمامية في القتال خلال سنوات الحرب.

بينما يتمكن أبناء الميسورين ممن لم يهاجروا من دفع أموال تجعل أبناءهم يتابعون خدمتهم الإلزامية في منازلهم.

ثقافة الفساد

وفي محاولة من نورث برس لمعرفة آثار هذه الظاهرة على الاقتصاد، قال أحد الاقتصاديين، إن الأسوأ من الفساد هو “نشر ثقافته”، حيث أن “كل سلوك فاسد نجح في الوصول إلى مبتغاه يعزز ثقافة الفساد حتى لو كان يصنف ضمن الفساد الصغير”.

وأشار الخبير الاقتصادي أن من أشكال الفساد الأكبر والذي يؤثر على بنية الدولة واقتصادها هو “الفساد في الاستثمار”.

إذ أن منع فرص الاستثمار عن الأشخاص الراغبين بذلك ومنحها للمقربين من المسؤول، “يتسبب أولاً بحصول الغير على فرص لا يستحقونها، ويتسبب أيضاً بتراجع فرص العمل والصادرات وقيمة الليرة ويزيد من التضخم، وكل هذا يؤثر على بنية الاقتصاد ويزيد أعداد الفقراء والمهاجرين”.

أضاف المصدر أن الفساد مع مرور الزمن يتحول إلى منظومات عمل، لأنه لا يمكن لشخص واحد أن يمرر فساده دون وجود آخرين يعملون معه، وتتطور هذه الشبكات لتصبح خطراً على البلد، لأنها تعمل لزيادة ثرواتها بغض النظر عن مصالح الدولة والمجتمع وخاصة عندما تكون في موقع قرار.

زر الذهاب إلى الأعلى