مقالات

تركيّا والأكراد والرّئيس السادات

محسن عوض الله

يمثّل شهر نوفمبر أحد الشهور الفاصلة في تاريخ الشرق الأوسط بل والعالم قاطبةً، ففي مثل هذه الأيّام من 41 عاماً كان الشرق الأوسط مع حدثٍ جلل، غيّر مساره، وبدّل أحواله، وقلّب تحالفاته.

ففي التاسع من نوفمبر 1977 وقف الرّئيس المصريّ محمّد أنور السادات ليعلن في مجلس النوّاب استعداده الذّهاب إلى إسرائيل وإلقاء كلمة بالكنيست.

كان الأمرُ جللاً، وخارج التوقّعات، فالرّئيس الذي لم يكَد ينتهي من معركة تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيليّ؛ يُعلن استعداده الذّهاب إلى عقر دار أعدائه، في خطوة لم يصدّقها الأعداء أنفسهم.

وفى 19 نوفمبر 1977 حطّت طائرة الرّئاسة المصريّة وعلى متنها الرّئيس “الشهيد” أنور السادات في مطار بن غوريون بتل أبيب، كأوّل زعيمٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ يزور إسرائيل، في خطوة أنهت الحرب بين القاهرة وتل أبيب، ولكنّها فتحت نيران المقاطعة العربيّة والإسلاميّة للقاهرة، فتمّ نقل مقرّ الجامعة العربيّة لتونس واندلعت مظاهرات بعواصم عربيّة ضدّ مصر، كما تعرّضت المصالح المصريّة ببيروت ودمشق لأعمال عنف.

بعد أكثر من 40 عاماً من زيارة السادات لإسرائيل؛ أثبتت الأيّام أنّ الرّجل كان زعيماً، فما فعله الرّجل في العلن وأمام كاميرات التلفاز ووسائل الإعلام العالميّة منذ قرابة النصف قرن، بدأ العرب يفعلوه الآن على استحياء ودون إعلان.

ذهب السادات لإسرائيل جنرالاً عسكريّاً منتصراً، وخرج منها زعيماً سياسيّاً وقد سجّل اسمه كرجلٍ شجاعٍ استطاع أن يغيّر التاريخ، ونجح أن يكون بطلاً للحرب والسّلام.

ومن القاهرة نعود سريعاً إلى روج آفا، حيث فيدراليّة الشّمال السّوريّ، ذلك الإنجاز الذي تأسّس بدماء شهداء شعوب شمال سوريّا بمختلف مكوّناتها، والتي تتشارك جميعاً في إدارة ذاتيّة لتسيير أمور الإقليم الذي يحبو في طريق الديمقراطيّة.

تعيش شعوب سوريّا وسط حالة لا تتوقّف من العداء التركيّ، حيث تسعى أنقرة التي تحتلّ عدّة مدن بشمال سوريّا مثل إعزاز والباب وجرابلس وعفرين لبسط سيطرتها على مناطق أخرى بشرق الفرات وإسقاط الإدارة الذّاتيّة الحاكمة بالشمال.

عداء الأتراك لمشروع التحرّر الكرديّ بشمال سوريّا، يجعلهم مستعدّون لفعل أيّ شيء مقابل إسقاطه والقضاء عليه، ويودّ ساسة أنقرة لو استيقظوا يوماً وقد ابتلعت الأرض روج آفا بمن عليها، ولا فرق هنا بين النظام والمعارضة في تركيّا، فمعاداة أيّ طموح كرديّ يمثّل واجباً قوميّاً للأتراك لا يجوز التخلّي عنه.

الغريب أنّه رغم كلّ المؤامرات والدسائس والحروب والعمليّات العسكريّة والمخابراتيّة التي شنّتها تركيّا ضدّ المشروع الكرديّ بشمال سوريّا؛ نجح الكرد في أن يعبّروا عن أنفسهم بمشروع الإدارة الذّاتيّة الممثّلة لجميع مكوّنات شعوب سوريّا، كمشروع ديمقراطيّ جديد على منطقة الشرق الأوسط.

كما فشلت تركيّا بكلّ أجهزتها وعملائها في إثبات تهمة الإرهاب التي تروّج لها أنقرة بحقّ حزب الاتّحاد الديمقراطيّ (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG)، بل على العكس، فهذه الوحدات جزء من التّحالف الدّوليّ لمكافحة الإرهاب، وأثبتت من خلال قوّات سوريّا الديمقراطيّة المنضوية تحت لوائها؛ براعةً وشجاعةً في مواجهة تنظيم “داعش” الذي يحظى بدعم ورعاية تركيّة بصورة واضحة لكلّ ذي عينين، ولم يعد هناك حاجة لدليل على إثباتها.

أعتقد أنّ فكرة الحرب التركيّة مهما بلغ مستوى إجرامها لن تقضي على أكراد سوريّا، فحتّى لو سقطت كلّ قيادات روج آفا بيد المخابرات التركيّة فلن تنعم أنقرة بالأمان، ولن تنتهي المشكلة، بدليل أنّ الزّعيم الكرديّ عبد الله أوجلان المرجعيّة الفكريّة لكرد شمال سوريّا معتقلٌ لدى تركيّا منذ قرابة 20 عاماً دون أن يكون لذلك تأثير كبير على مؤيّديه.

الدّولة التركيّة بحاجة لفكر جديد وسياسة مختلفة في تعاطيها مع القضيّة الكرديّة، بعد أن فشل الحلّ العسكريّ على مدار عقود، الدم والنار لن يجلب الأمن للأتراك، الدّماء ستجرّ دماءً، لا بديل عن حوار يُنهي سنوات الحرب التي أثبتت الأيّام عجزها وفشلها في حلّ الأزمة.

يحتاج الأتراك لرجلٍ مثل الرّئيس المصريّ أنور السادات الذي أدرك أنّ الحرب لا يمكن أن تكون حلّاً، واستطاع تجاوز الحاجز النفسيّ بين المصريين وإسرائيل بصناعة عمليّة سلام أوقفت أنهار الدم بين البلدين، وكانت بداية لعمليّة سلام عربيّة إسرائيليّة مازالت مستمرّة حتّى الآن.

تحتاج تركيّا لزعيم قادر على إدارة المعركة سياسيّاً بعد أن فشلت عسكريّاً، رجلٍ يريد الخير لبلاده ولا يخشى غضب القوميّين أو المتطرّفين الجُدُد، رجلُ دولةٍ لا يبحث عن مغامرات عسكريّة لتعزيز شعبيّته؛ بل مُستَعدٍّ أن يضحّي بتلك الشعبيّة مقابل أن يوقف أنهار الدم التي تسبّبت فيها سياسات عسكريّة فاشلة.

أعتقد أنّ الولايات المتّحدة وروسيّا بحكم علاقاتهما المشتركة مع تركيّا وأكراد سوريّا؛ مُطالبين بلعب دور في إيجاد تسوية ما بين الطرفين، وتشجيع الطرف التركيّ وإجباره على القبول بالإدارة الذّاتيّة بشمال سوريّا والتّعاون مع مجلس سوريّا الديمقراطيّة كممثّل سياسيّ لفيدراليّة شمال سوريّا.

لا أعتقد أنّ مجلس سوريّا الديمقراطيّة قد يمانع من خطوة مثل هذه حال حدوثها، خاصّةً أنّها ستكون برعاية أمريكيّة وبضمانات روسيّة، وستمنح المجلس والإدارة الذّاتيّة حقّ استكمال مؤسّسات الإدارة وإجراء انتخابات الفيدراليّة المعلّقة منذ احتلال عفرين.

ختاماً..

همسة في أذن قادة تركيّا.. ابحثوا بينكم عن السادات، فمن الحماقة الاستمرار في حرب لا نهاية لها.. إبادة الكرد لن تجعلكم أكثر أمناً، ولكنّها ستصنع جيلاً جديداً من الأكراد أكثر دمويّة ورغبة في الانتقام.. أوقفوا الحرب وانشروا السّلام رحمةً بأبنائكم..

نقلاً عن موقع صدى سيا

زر الذهاب إلى الأعلى