المجتمعمانشيت

تأملات نسوية كردية

عُرفت المجتمعات الّتي تعاني من الصّراعات أنّها تشهد معدّلاتٍ أعلى من العنف القائم على نوع الجّنس.

لطالما خضعت المرأة الكرديّة لقيمٍ أبويّة, من ملابسها إلى لغتها إلى تعليمها وزواجها وتربيتها وأكثر من ذلك، فإنّ كلّ جانبٍ من جوانب حياة المرأة الكرديّة تنظّمها الأعراف الأبويّة.

من خلال نهوض حركات التّحرر الكرديّة أصبحت المرأة تشارك بشكلٍ متزايدٍ في المقاومة والانتقاد وتوليد ممارساتٍ جديدةٍ للقضاء على القمع القائم على النّوع الاجتماعي في المجتمع الكردي, هذا واضحٌ في النّساء الكرديّات الّلواتي اكتسبن شهرةً دوليّةً ضمن قوات (الكيريلا) في حزب العمّال الكردستاني، وفي الآونة  شجاعة مقاتلات الـ YPJ في روج آفا.

YPJ عجائب نسويّةٌ عصريّة

المناقشات حول حقوق المرأة في كردستان ليست مفهوماً جديداً, ومع ذلك فمن خلال صعود وحدات حماية المرأة في جميع أنحاء غرب كردستان  في شمال سوريا, والمعروفة باسم روج آفا، أصبحت هذه المناقشات تتّجه نحو الصّدارة بشكلٍ متزايدٍ على نحوٍ يتناقض بشكلٍ صارخٍ مع البديل الأبوي, وبرزت “YPJ” بعد الانتفاضة الكرديّة ضدّ نظام الأسد، خلال الاحتجاجات في سوريا, إنّ التزامهنّ المزدوج بإنهاء الاضطهاد والعنف ضدّ النّساء من قبل قوىً خارجيّةً مثل الدّولة الإسلاميّة الوحشيّة (داعش) أو النّظام، وكذلك داخل مجتمعاتهنّ المحليّة، وقد وُصفن على أنّهنّ عجائبٌ نسويّةٌ حديثة.

كنت أعيش في روج آفا لمدّةٍ تقرب 4 سنوات، وكان لي شرف مشاهدة التّعقيدات والفروق الدّقيقة في النّقاش حول تحرير النّوع الاجتماعيّ في إطار نموذج الكونفدراليّة الدّيمقراطيّة في روج آفا، فالمساواة بين الجّنسين منصوصٌ عليها في العقد الاجتماعي, وقد اتّخذت (كونكرا ستار) تنفيذ عمليّة تحرير النّوع الاجتماعي، والّتي حاولت تغيير الأعراف الاجتماعيّة من خلال إنشاء(بيوت النساء) على نطاقٍ واسعٍ في جميع أنحاء المنطقة, وتعمل هذه البيوت كأماكن آمنةٍ تحصل فيها النّساء على الدّعم فيما يتعلّق بقضايا مثل العنف الأسريّ والاعتداء الجّنسي والطلاق وحضانة الأطفال ودعم الطّفل والنّزوات العائليّة والزواج وأكثر من ذلك, ومن بين القوانين الّتي أُدخلت في المنطقة على سبيل المثال القضاء على تعدّد الزّوجات والزواج القسري وزواج الأطفال، وحظر جرائم الشّرف والعنف المنزلي وغيره من أشكال التّمييز ضدّ المرأة.

تمّ تنفيذ هذه القوانين من خلال وجود YPJ والقوى النّسائيّة في (الأسايش) وتدريب النّساء على نطاقٍ واسعٍ في الدّفاع عن النّفس باستخدام الأسلحة، والتّعليم الجّماعي المستمرّ للمجتمع حول حقوق المرأة، وخلق مساحاتٍ آمنةٍ للمرأة مثل منازل النّساء وقرية (جنوار) النّسائيّة وأكثر من ذلك.

غير أنّه من السّابق لأوانه افتراض أنّه من خلال هذه التّغييرات التّقدميّة والجّهود الشّاقة الّتي تبذلها النّساء وغيرها من العناصر المؤيّدة للدّيمقراطيّة داخل حركات المجتمع المدني في روج آفا، فإنّ هذا القمع اتّجاه المرأة يتمّ القضاء عليه تماماً, وعلاوةً على ذلك فإنّ أفكار التّحرر داخل الحركة الكرديّة تُتّبع إلى حدٍّ بعيدٍ لرؤيةٍ معياريّةٍ بين الجّنسين.

مثل هذه الانتقادات صالحةٌ ولكنها تندرج أيضاً ضمن مفهوم الحجّة النّسبيّة الثّقافيّة, وهي صالحةٌ لأنّ الحركات الثوريّة تحتاج إلى التّقيد بالمفاهيم المتداخلة للتّقدم، ولا تأخذ مثل هذه الحجج في الاعتبار أنّ التّخلف الواسع الانتشار وقلّة التّعليم والمحافظة الدينيّة والثقافيّة قد رسّخت القيم الأبويّة، مما ترك مساحةً صغيرةً لإبراز النّاس الغاضبين, بالإضافة إلى ذلك فإنّ المقارنات مع الإنجازات النسائيّة الغربيّة تفشل في اعتبار المسار الطّويل للتّغيير العضويّ المطلوب داخل المجتمعات الناميّة للوصول إلى مستوىً مماثل.

لا يزال هناك الكثير من المحرمات وتقتضي العديد من الحواجز الاعتراف بها ومعالجتها.

لا يمكن أن تصبح القيم التقدميّة عضويّةً داخل مجتمعٍ بين عشيّةٍ وضحاها, وبالرّغم من العمل المستمرّ للحركة النّسائيّة الكرديّة في السّنوات الأربعين الماضية، لا يزال هناك طريقٌ طويلٌ يجب أن نسلكه، ليس فقط للنّساء ولكن المجتمع بشكلٍ جماعيّ يُعتبر حرّاً حقاً.

الهويّة الثّقافيّة السّائدة في المجتمع الكردي اليوم هي تناقض القيم الأبويّة بين الجّنسين, والمعايير الأكثر تقدميّةً الّتي دائماً ما تكون متوتّرةً مع بعضها البعض, وهذه العناصر الليبرالية (بقايا التّاريخ الأمومي) تتعرّض باستمرارٍ للصّراع داخليّاً، وتواجه المزيد من التّحديات بسبب استمرار القمع للكرد في ظلّ الأنظمة المعادية للكرد.

يضمن استحقاق الذّكور أنّ النساء الكرديّات العاديّات اللاتي يرغبن في تحديد كيفيّة عيشهنّ، وماذا يلبسن ويتزوّجن وما إلى ذلك، غالباً ما يتعيّن عليهنّ التعامل مع آراء المجتمع الكردي بأكمله.

وبطبيعة الحال تتمتّع النساء بامتيازٍ في العيش في الغرب, والحصول على الأمان والقدرة على العيش في حياتهنّ بشكلٍ مفتوح, ليس فقط أولئك اللواتي يعيشن في كردستان, ولكن أيضاً في جميع أنحاء الغرب، ممنوعاتٍ بشدّةٍ من الوصول إلى هذا الامتياز.

إنّ الرّؤية البديلة والمقبولة على نطاقٍ واسعٍ للأنوثة في المجتمع الكردي تنطوي على التّواضع والخضوع والتّقوى الدّينيّة, والعرض المفتوح للأنوثة الجنسيّة الّتي تظهرها بعض النّساء يُحدث توتّراً مباشراً ضدّ تلك القيم المحافظة المستمرّة، والرؤى المثاليّة للأنوثة عبر كردستان.

وعلى نحو مماثلٍ كثيراً ما تصبح العديد من النّساء حاملاتٍ للذّكورة السّامة, وتديمها بشكلٍ متقاربٍ وبصورةٍ غير مباشرةٍ اتّجاه النّساء الأخريات اللواتي يُنظر إليهنّ على أنّهنّ لا يلتزمن بالمعايير الثّقافيّة, فنحن بحاجة إلى الاعتراف بدورنا في استيعاب القيم الأبويّة المفروضة علينا، والدّور المهمّ الّذي نلعبه في المراقبة والتّحكم في بعضنا البعض باعتبارنا نساءٌ للبقاء ضمن حدود الأنوثة المقبولة.

هناك عنصرٌ آخر معقّدٌ في هذه المناقشة وهو الطّبيعة الرأسماليّة للعلاقات بين الجّنسين عبر المنطقة, من خلال الممارسة الثقافيّة الواسعة النّطاق لأسعار المهور، والّتي تُدفع دائماً بمبالغ ذهبيّة باهظة, تقليدياً يصرف المهر كآليّة أمانٍ اقتصاديٍّ للنّساء في المجتمعات الّتي غالباً ما تفتقر للاستقلال المالي, ومع ذلك فإنّ سعر مهر الذهب يُسلِّم أجساد النّساء، وتصبح الجّنسيّة مادّةً قابلةً للشراء, وتضع السّلطة مرّةً أخرى بين أيدي الرّجال, وعلى العكس إذا لم يتمكّن من جمع المهر الكافي فهو غير قادرٍ على الزّواج.

في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، عندما هاجمت تركيا منطقة عفرين الشّماليّة، كانت قوّات YPJ في طليعة القتال لحماية المجتمعات المسيحيّة والكرديّة والإيزيدية والأرمنية في المنطقة, وبعد فترةٍ وجيزةٍ تمّ التّمثيل بجسد المقاتلة (بارين), وصُدم العالم بتشويه الثّديّين وتقطيعهما، وحرق جسدها وتعريتها، فعانت الجماعة الكرديّة من الصّدمة عندما شاهدت الثّمن الباهظ الّذي تدفعه المرأة مقابل مقاومتها للقوى الفاشيّة والمستعمرة, إلّا أنّ الاحتجاجات الجّماهيريّة انطلقت من قبل رجالٍ ونساءٍ يحملون لافتاتٍ ويردّدون أنّ جثّة بارين المشوّهة لا تمثّل العار ولكنها شرف المجتمع، وأنّه لا يمكن لأيّة قوّاتٍ غازيةٍ أو فاشيّةٍ أن تُحرّم شرف المرأة الكرديّة, هذه الآراء التّقدميّة الّتي كانت تمنع قبل آلاف السنين آلاف النّساء من العمل السّياسي والدفاع عن النفس تشجّع الآن النساء على التّعامل مع إيديولوجية بارين في الحماية الذّاتيّة ضدّ القوى الفاشيّة.

في أواخر عام 2016 كنت على وشك مغادرة كوباني  بعد أكثر من عامٍ من العيش هناك, والعمل مع مجلس إعادة إعمار كوباني, في اليوم الّذي سبق مغادرتي قرّرت السير إلى مكتب (كونغرا ستار) لأودّع صديقاتي, وعلى الجّانب الآخر من الطّريق من مكتبهم كانت لديّ تجربةٌ مروّعةٌ من التّحرّش في الشّارع، فغمرني شعورٌ بالغضب الشّديد والاشمئزاز, وأتذكّر أنّني كنت أفكر (ولكن هذه هي كوباني مدينة النّساء الثّوريّات، مدينة YPJ. كيف يمكن حصول هذا؟

لكنّ الواقع هو أنّ النّظام الأبوي واضحٌ في كلّ مكان, ويعيش في كلّ مجتمع, ومحاربته وتحطيمه أمرٌ حتميٌّ وأخلاقيٌّ للجميع.

وحتّى الآن وعلى الرّغم من محدوديتها، تواصل روج آفا تحديد ما يجب أن نهدف إليه في الحقوق التّقدميّة والجّنسيّة التّقدميّة لكردستان بطريقةٍ عضويّةٍ ومتسارعة, ومع ذلك من المؤكّد أنّه لا ينبغي أن تكون هناك  نهايةٌ لتحرير النوع الاجتماعي.

هاوزين عزيز

زر الذهاب إلى الأعلى