مقالات

بانتظار النضوج الثقافي


بدران الحسيني
الكتابةُ عن النضوج الثقافي ومواضيعه الحماسية تصيبني بالتفاؤل والسرور كثيراً؛ إلَّا أن المشكلة عندي هي حينما أُسْرِفُ في التغلغل بين طيات تعاريف الثقافة ينطوي ذلك حتماً على التعرج إلى المثقف، وسيل التعريفات التي لا طائل منها وتواجهه في الوقت الراهن مِمَّنْ يدَّعونَ المستشرقين والمفكرين والحكماء.
عندما كُنا صغاراً ونتعلم في مدارس القُرى نهجَ التاريخ المُزيَّف والجغرافيا المُحرَّفة والوطنية المفصَّلة على مقاسات الأنظمة الحاكمة؛ كان مُعلم الصف وكيلُ الله على الأرض لدى أوليائنا، ولا تنزل له كلمة في الموازين ولا يُناقش فيها حتى وإن كان هذا المعلم جباراً ودكتاتوراً ويتعامل بالبطش مع الطلاب كقطيع من البهائم، وهذا ما كان يتيح له ممارسة الملاكمة مع أي تلميذ ابتدائي، ويطرحه أرضاً بالضربة القاضية.
في عالم أهل الريف والمدينة آنذاك كان المُعَلِّمُ (مثقفاً) رغم أنهم “أهل الريف” كانوا يطلقون عليه كلمة (مُتعلم… ويزيدون عليها جملة “يعرف كل شيء).
كان جو الرُّعبِ والإرهابِ سائداً في المدارس كما كان سائداً في عموم البلاد، لم يكن المعلمون يتلفظون بلغةٍ أخرى سوى العربية، لم يتطرق أحدٌ منهم مع آباء التلاميذ إلى الكردية أو إلى أن هناك شعبٌ كردي له حقوق /تاريخ وأرض وثقافة/ إلَّا على مستوى الأفراد وبعض الجماعات الصغيرة المتخفية يعزفون على انفراد في العقود الماضية؛ فزُرعت العروبة في أذهان وأدمغة جيلٍ كاملٍ من الكرد بل أجيالاً؛ حتى صار بعض الكرد عروبيين أكثر من العرب أنفسهم، فأي مثقف كردي مسكين يُرجى ممن تخرَّجَ من هذه المدارس؟.
منذ عقودٍ خلت كانت تلك هي الطريقةُ المُتَّبَعةُ في إمحاء الكُردِ كما قال لي صديقي المثقف الذي كان يلبس بدلته الوحيدة وربطة عنقه المُشْبَعةِ بالانحناءات والنتوءات كتجاعيد وجهه السحيقة من الزمن وخدوده الناتئة.
عندما انتهى صديقي المثقف من عملية بيع قميصه وسرواله وزارني في البيت؛ شكا كثيراً من بعض التعريفات التي ألصقت بالمثقف من جهات أخرى، ووافق على القليل منها، كما حدَّثني مطولاً عمَّا جرى بينه وبين مجموعة من (المثقفين) الكرد قائلاً: لا تؤمن أبداً بشهادة التحصيل العلمي فالشهادة شيء والثقافة شيء آخر، وليس كل مَنْ علقَ شهادته على الحائط يكون بالضرورة مثقفاً، وقِس ذلك على كل من تقع عليه عيناك. ثمَّ ربتَ على كتفي وقال: أنا أشَبِّهُ المثقف بالقائد العسكري المُحَنَّكْ الذي عندما تقع مجموعة عساكره في كمين محكم يخترع طريقة لإنقاذهم، وكذلك تعريفي للمثقف: هو الذي يبتكر الطرق والأفكار للحلول الناجعة التي تتماشى مع كل مرحلة على حِدَةْ ويطرحها للمجتمع ويقدمها للقادة.

زر الذهاب إلى الأعلى