مقالات

الوجدانية واللعب على الحبلين

عبد الكريم ساروخان

يقال إن الحقيقة مرَّة وعلى صاحبها أن يدفع ثمن صراحته وموقفه فلكل مسألة ثمنها، والتضحية لها أشكال متعددة وحسب الظروف، قد يكون هناك من يضحي بموقف، وهناك من يضحي بنفسه من أجل قضية ما، وأنا هنا سأركز على الموقف باعتباره شكل من أشكال التضحية وكذلك هي مسألة أخلاقية ووجدانية، وهي تخص كل فئات المجتمع، لكنها تخص الفئة المثقفة بشكل خاص.

لن نطلب من المثقفين والكتاب وأصحاب الأقلام التضحية بالنفس في ساحات الحرب، رغم أن هذا واجب المجتمع ككل، ولكن سنطلب منهم أن يكونوا أصحاب موقف واضح في القضايا الوطنية والمصيرية، لكن مع الأسف أشباه المثقفين وبعض الذين يصفون أنفسهم بالحيادية، وأخصُّ بالذكر هنا الذين يبررون الخيانة لا بل يعتبرونها مجرد وجهة نظر، وكأننا أمام من يقف ويساند من يخون قضية شعبه، وبالأخص  الذين يتسامرون أو يكتبون على صفحات التواصل الاجتماعي  ويقذفون الناس بأحاديثهم، حفاظاُ على مصالحهم الشخصية وعلى علاقاتهم وهذه لا تكون على مستوى الافراد والجماعات فقط، إنما تشمل أحزاب سياسية تحاول الاستثمار سياسياً مع دول إقليمية على حساب القيم الوطنية.

البعض من الذين اعتبروا أنفسهم نخبة ومثقفين مستقلين وحياديين بمواقفهم الضبابية والرمادية التي كانت أسوء من المواقف المعادية في بعض الحالات، ساهمت في خدمات أعداء الثورة، واجنداتهم بوعي أو دون وعي، والفرد أو المثقف في المجتمع عندما يتحدث أو يبدي رأياً عليه أن يكون صريحاً وصاحب موقف تجاه موضوع ما، لا أن يحافظ على حالة التوازن المعتادة في إلقاء التهم وتوزيع الخطأ على طرفي المعادلة وكأنه هو ميزان القبان وهو الوحيد الذي يمثل الحالة الإيجابية والآخرين هم الشوارد السالبة في المعادلة.

قد يكون هناك أفكار جديدة، واقتراحات تطرح ويستطيع الجميع الاستفادة منها ولكن هنا الوضع يختلف ولا يتعلق الموضوع بأفكار جديدة؛ إنما تشجيع لمن يرتكب الجرم وإعطائه المبرر والوقوف الى جانبه، وهذا يعني بأنه شخص خنوع وعديم الموقف ويحافظ على مصلحته بحجة النقد وإظهار نفسه كمستقل وحيادي، وهؤلاء يخلطون بين المفاهيم وواجب المثقف والمستقل وبين قول الحقيقة وبين الحيادية.

كان يجب أن يكونوا من يدعون أنهم مثقفين هم أصحاب توجيه المجتمع وإرشاد الأطراف التي تسيء وترتكب الخطأ والجريمة وهذا يندرج على أولئك الذين يطالبون بالوحدة الكردية ويتهمون كافة الأطراف بتحمل المسؤولية وكأنهم يمثلون الخط الثالث، والأصح هم الطرف المسيء وليسوا خط ثالث رغم ادعائهم بالاستقلالية وهؤلاء يعتبرون من الفئة البرجوازية الصغيرة التي تحاول الحفاظ على نفسها في كافة الظروف.

الخط الثالث يعتبر نموذج جديد  في الشرق الاوسط عامة وفي سورية بشكل خاص إلى جانب وجود نماذج  وافكار وايديولوجيات أخرى، أما في حالتنا والتي نحن بصددها، والذين يظهرون أنفسهم بالمستقلين وعلى أساس أنهم بعيدين عن التحزب ويحمِّلون البقية مسؤولية عدم التقارب فأنني احملهم هنا مسؤولية تمادي الطرف الآخر، وخاصة الذين  يصطفون  إلى جانب الأعداء فهم شركاء في هذه الجريمة كون اقلامهم تدخل في خدمة الطرف المعادي دون أن يكون لهم موقف حقيقي، وأصحاب تلك الرؤى يشجعون المخطئ في التمادي بخطئه، وهكذا يفكر أن مواقفه مقبولة ويوجد من يسانده ويعتبر نفسه في الصواب.

لو كان الجميع ذو موقف جريء وصائب لما تجرأ الطرف الذي يمارس الخيانة في التمادي، وكيف لذلك المثقف أن يساوي بين المضحي وبين من باع قضيته ويقف الى جانب من يحتل أرضه وكان السبب لسبي نسائه وكرامته وقصف شعبه بالطائرات والأسلحة المحرمة دولياً، ويقوم بالتغيير الديمغرافي؟

والزيارة الأخيرة لمسؤولي المجلس الوطني الكردي إلى أنقرة ولقائهم مع وزير خارجية النظام التركي، كان مثالاً واضحاً لذلك الذهنية المستعدة لخدمة الأعداء وغير المستعدة لوحدة الصف الكردي، لكن موقف المثقفين ضد هذه الزيارة لم تكن بالمستوى المطلوب، مع كل الاحترام لأصحاب الأقلام الحرَّة والتي كانت لها مواقف واضحة.

نحن أمام مشهد يجب رؤيته بوضوح، فهناك من قدم الآلاف من الشهداء وقاوم الإرهاب ودحره، ويعمل جاهداً لتطوير إدارته ويقود حملة ضد الإرهاب واستطاع حماية شعبه في أصعب الظروف وتأمين الاستقرار له، وهناك من عمل منذ البداية لتدمير هذه التجربة ووضع نفسه في خدمة أعدائها ومارس الإشاعات والاكاذيب، فالتساوي هنا  هو عين وروح الجرم الذي يرتكبه أولاً بحق قلمه ومن ثم بحق قضيته فقط ليحافظ على أن تكون له مكانة بين هذا وذاك، وبذلك يتلاعب بمشاعر بعض المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعي ودون أن يكون له موقف معين تجاه أحدهم وهناك بعضهم الذين لا يستطيعون التعبير عن ذلك عبر الكتابات والنقاشات ولكنهم  يعبرون عنها  ببعض الممارسات العملية كالذين يرفعون أعلام ورايات إقليم كردستان وأعلام تف دم بما معناه أنه لا فرق بينهما من حيث تقربه لهم ليحافظ على موقفه المتذبذب ويحافظ على مصلحته بين الطرفين، القصد هنا نوعية الذهنية المتذبذبة وليس رفضاً لرفع الأعلام، فالإدارة الذاتية وجميع القوى السياسية الكردية تحترم كل الاعلام والرموز.

الضبابي والرمادي هو أكثر شخصية مترددة وتفتقر إلى الجرأة والشجاعة، وربما أيضاً الأقل وطنية، إن لم نقل إنه شخص انتهازي ولا يهمه سوى مصلحته الشخصية، وهو كذلك شخصية لا يمكن الاعتماد عليه ولا الثقة فيه، وعلى المثقفين وأصحاب الأقلام الحرَّة فضح تلك الزيارة المشبوه، وخاصة إنها أتت كَنَسفٍ للمبادرة التي أطلقتها قيادة قوات سوريا الديمقراطية لتوحيد الخطاب الكردي، واستثماراً غير أخلاقي لتلك المبادرة لتحقيق مصالح حزبية ضيقة على حساب القضية الأساسية.

من واجب كل إنسان وطني أن يكون له موقف، فهي مسألة وطنية ووجدانية تجاه هذه المجموعة التي تحججت في الماضي بحجج واهية لتهرب من الاستحقاقات الوطنية، واليوم أيضاً تحاول نسف كل المحاولات الوحدوية بتصرفاتها وممارستها البعيدة كل البعد عن الوطنية.

نعم أنها مسألة مجتمع ومسألة وعي ومسألة مواقف، ماذا لو حدث في مكان أخرى أو لدى شعب آخر أو في دولة أخرى، ماذا لو ذهب فئة إلى جانب الأعداء؟ كيف سيكون المواقف منهم؟ إذاً علينا معالجة هذه المسألة من عمقها وجذورها بِدْءَاً من الفرد وانتهاء بالمجتمع، فنحن نحتاج إلى ثورة فكرية وذهنية ومن المفروض أن يكون المثقفين روادها إلى جانب ثورتنا في روج آفا، ونحتاج إلى نضال مرير وكفاح مستمر حتى نستطيع تخطي هذا المفهوم ونتجاوزه ونخلق شريحة وفئة مثقفة وواعية تستطيع أن تقف بوجه الخطأ وتقف سداً أمامه وتكون قدوة لمجتمعنا وتكون قلمها ناطقة للحقيقة ولها مصداقية.

زر الذهاب إلى الأعلى