مقالات

المعادلات السياسية بعد العدوان التركي، وبضع ملاحظات

في التسامر أو السهرات الليلية في القرى كانت تُسرد الكثير من القصص والروايات ومنها ما كنت تُعرج إلى المواضيع السياسية والتاريخية، عن تاريخ الكرد وبطولاتهم واخفاقاتهم أحياناً وخاصة ما كان يٌروج بأن الكرد في المعارك أبطال ولكن في السياسة والمفاوضات يخسرون كل شيء، والمتحدث أو الراوي كان يظهر للمستمعين وكأنه يفهم كل شيء وأكثر عقلانية ويلقي بالتهمة هنا وهناك، كحال بعض مثقفينا اليوم الذين لا يكتبون وأن كتبوا نطقوا سماً.

فمنهم من ربط تاريخنا وحضارتنا بالأقوام الهندو أوروبية اعتماداً على ما تم تسريبه ببعض الكتب، ويتم ترويج ذلك دونما البحث والتدقيق خدمة لأجندات أعداء الأمة والحضارة ودون وعيٍ بذلك، ولم يكترثوا بأن ذلك كان بدوافع سياسية ومخططات إقليمية، والحقيقة أن حضارتنا وتاريخنا يعود إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد أي بـ ١٢ الف عام ق.م وحضارات تل حلف وأورفا وما ترك من آثار ومنحوتات ولقى أثرية والكتابات، تدل على انطلاق البشرية من هنا، ومن هنا بدأت الهجرة نحو أوروبا وأفريقيا وأمريكا الحالية، والعديد من المؤرخين أكدوا ذلك، فالحضارة انطلقت من الشرق، والهجرة انطلقت من هنا بين الدجلة والفرات، وبالتالي كان من الواجب التدقيق والبحث في هذا التاريخ من وجهةِ نظر منطقية وعقلانية، لا تردِد ما كتبه الأعداء، وما زيفهٌ من حقائق، في سبيل اقناع العالم أن هذا الشعب لم يكن صاحب هذه الأرض وأتى من شمال أوروبا أو من جبال قفقاسيا.

إلى جانب ذلك كان يربط إخفاق الثورات بأسباب كثيرة لاتعد ولا تحصى دون البحث عن البديل أو الأفضل أو ما هو الحل ولكن البحث كان يقتصر على إلقاء التهم واللوم وربطها في الأخير بالقدر عندما يكون النقاش عقيماً، ويتم إلقاء اللوم على قادة تلك الثورات لا بل يُحّملونهم ما هو فوق طاقاتهم، ويتهمونهم بالخيانة في بعض الأحيان، وهذه الطريقة بالتفكير أيضاً موجودة لدى البعض من المثقفين الذين هم خارج الثورة أو الذين يقفون متفرجين وربما أيضاً البعض منهم يعادي الثورة، يتهجمون دون دراية ومعرفة بالظروف، وحتى دون إلمام ولو بجزء من التاريخ، ولا يجهدون انفسهم ويقذفون التهم الجاهزة والمفبركة، دون ربط بين الماضي والحاضر، متناسين بأن الظروف التي نعيشها الآن تختلف كل الاختلاف عن الماضي، وما حققته هذه الثورة ربما تجاوزت كل الانجازات والمكتسبات التي تحقق في الثورات السابقة، وما أنجز رغم كل المصاعب والتدخلات الخارجية أعطت هذه الثورة الخبرة والقوة والمناعة لمجابهة كل المخططات.

في ثورتنا نعيش حقيقة لا يستطيع العديد من الذين ادعوا الثقافة رؤيتها وادراكها، فهم لا يؤمنون بقوة شعبهم، ولا يؤمنون أصلا بالثورة وعيونهم لا ترى سوى الدعم الخارجي، وهم اتكاليين في كل تحركاتهم وحتى في طريقة تفكيرهم، ولا يرون أن هذه الثورة قلبت العديد من الموازين، وأحدثت تغيرات جذرية في ذهنية المجتمع، بل ان رؤيتهم ونظرتهم تتركز في الدعم الخارجي، ويتهمون هذه الثورة بأنها تعتمد على قوى الهيمنة، وكل خطوة يفسر على هذا الأساس، وهم كالنعامة التي تخبأ رأسها تحت التراب، لكي لا يرون كل هذه التحركات الشعبية وكل هذه التضحيات وكل هذا الجهد وكل هذا النضال الذي خلق حالة عالمية للتعاطف والتأييد لم يكن لها مثيل في تاريخنا القديم والمعاصر.

هذه الثورة تعتمد على ذاتها ولا تسلم ارادتها لأية قوة أجنبية فهي صاحبة نهج وايديولوجية، واعتمادها الكلي على أبناء هذا الشعب، رغم أنها تملك العديد من العلاقات وتقيم الاتفاقيات وتجري بعض التفاهمات، وتحاول الاستفادة من كل الاتفاقيات والتفاهمات.

وقد يكون من الصحيح القول أن لنا علاقات وتفاهمات مع الاخرين ونستفيد منهم ومصالحنا تتداخل مع بعضها ونتفق أحياناً ونختلف أحياناً أخرى لكن عديمي الثقة بأنفسهم أولاً ومن ثم بشعبهم وثورتهم ثانياً، تظهر لديهم ذلك التردد ويدخلون في تناقضات، ويبحثون عن المخارج لهم للرجوع إلى الخلف ومن ثم إلقاء التهم وإظهار أنفسهم بأنهم أعلى شأناً وعقلانية ولديهم مفاتيح الحل ويغردون خارج السرب أو المنطق فقط ليكون لديه حجةً للهروب إلى الخلف بغية إنقاذ أنفسهم قبل الانهيار حسب منطقهم .

عندما نقول بأننا نعيش الحرب العالمية الثالثة فهي ليست مجرد كلام في الهواء بل هي حقيقة وتخاض بين قوى الهيمنة وبمشاركة دول إقليمية على أراضي سورية وبالأخص في شمال سوريا وشرقها، وفي هذه الحالة أصبحت قضيتنا قضية دولية، لا يستطيع طرف ما اتخاذ أي قرار ما لم يكن باتفاق دولي واقليمي.

وهنا في هذه الحالة استطاعت الإدارة الذاتية التواصل مع كافة الأطراف ومارست سياستها الخاصة بها دون أن تكون تابعة لأي من القوى الإقليمية أو الدولية، واستطعنا أن نكون قوة مؤثرة ضمن ما هم يخططون له ولا يستطيعون تجاوزنا في كل الأحوال.

واتهام قادتنا بالفشل والقول أنهم يسلكون طرق خاطئة او القول أن القوى الهيمنة أجبرتهم على الرضوخ لا بل حتى اتهامهم بأنهم جزء من المؤامرة، ما هي إلا تهم باطلة وهي لغايات سياسية دنيئة الهدف منها ضرب هذه التجربة خدمة لأجندات خارجية.

هذه الثورة حررت ثلث البلاد وخاضت قواتها المئات من الاشتباكات والمعارك وانتصرت ودحرت أقوى الحركات الإرهابية في العالم، ولذلك فإن الحكم على هذه الثورة وهذه التجربة بأنها فاشلة من خلال جولة أو من خلال معركة في عفرين أو سريه كانيه أو تل أبيض، متناسين بأننا في حرب قذرة غير متكافئة وإننا كسبنا الكثير من المعارك وربحنا الحرب وأصبحنا قوة مؤثرة في المعادلة الدولية، والتقييم السلبي لحالتنا يبقى لقصيري النظر الذين يعانون من مرض قُصر النظر.

ما هكذا تورد الإبل يا أشباه المثقفين، والذين يخلطون بين السياسة والثقافة، عليهم ان يدركوا كافة الجوانب ويأخذها بعين الاعتبار لا أن ينظروا إلى الأمور بنظرات رمادية ومتعالية، وعليهم أن يدركوا حجم الحرب التي نخوضها أولاً وحجم القوى التي شاركت وتشارك في هذه الحرب، فبعد أن كان قضيتنا وحربنا إقليمية ومحلية بتنا ندرك بأنه دخل إطارها الدولي هي حاليا ذات ابعاد خطيرة، لكن ورغم هذه الظروف تم اكتساب العديد من المكاسب و تحقق العديد من الانجازات وعليهم ان يكونُ أكثر منطقية في تقييم الأمور، وأن لا يتناسوا بأنهم يمثلون جزء من الثورة.

ثورة روج افا التي تكللت بالنجاح مازالت هي التجربة الوحيدة التي حافظت على نفسها في سوريا، في الوقت الذي تدمرت سوريا بمعظمها نتيجة سياسات القوى التي ادعت الثورة والثورية في يوم ما.

تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التي هي ثمرة من ثمرات هذه الثورة اصبحت نموذج يحتذى بها ليس على المستوى الداخلي بل على المستوى الإقليمي والدولي، واليوم يحسب لها الحساب في كل المعادلات السورية والإقليمية والدولية، وان كان الأعداء يخططون لتدميرها منذ تأسيسها وحتى اللحظة. وهذه التجربة بقوتها العسكرية والسياسية التي حققت كل هذه المكتسبات تدخل مرحلة جديدة مع بدء العدوان التركي على شمال وشرق سوريا، مرحلة سيكون للتحركات السياسية الدور الأهم، ومثلما انتصرنا عسكريا فإن هذه الثورة وبخبرتها وقادتها وامكانياتها واعتمادها على شعبها قادرة على كسب المرحلة وتحقيق المزيد من المكتسبات.

نقطة أخرى من المهم الإشارة إليها وهي أن بعض الجهات تتقن فن الحرب الخاصة وتمارس حربٍ نفسية أن لم نقل أن البعض متعاونين مع أجهزة استخبارات التركية والتي بموجبها اصبح اقلام بعض الكتاب تبث سموما، هؤلاء الذين من المفترض أنهم مثقفين والذين من المفترض أن يكونوا مرآة لشعبنا في مجال الثقافة، لكنهم يسعون بكل السبل ليصوروا للشعب بأن الثورة فشلت وبدأوا يبحثون على من يعلقون عليهم شماعتهم، مدعينا أن قادة الثورة تنازلوا عن القيم والمبادئ ولم يبقى أي شيء تحت قيادتهم واداراتهم ويُظهرون كأن المسألة انتهت وبدأنا ندخل مرحلة العد التنازلي.

في حقيقة الامر حتى هذه اللحظة لا يوجد أي نوع من الاتفاق رغم أن الإدارة الذاتية عبرت في أكثر من مناسبة عن استعدادها للحوار لكن لم تجري مفاوضات رسمية بين الجهتين فكيف استنتج هؤلاء هذه الافكار السوداوية و كأنهم أكثر دراية بالثورة و هم الذين ضحوا وأراقوا الدماء وكانوا في الصفوف الأمامية للثورة، رغم أن غالبيتهم قاطنين في ازقة واروقة الدول الاوربية، وكأنهم يقرأون الفنجان والمستقبل ويهرولون للكتابة اليائسة والتي لا تخدم ظروفنا التي نعيشها في ظل تقارب كردي كردي، وتقارب بين المكونات.

في الحقيقة آرائهم ووجهات نظرهم تخلق شرخ بين المجتمعات، وهم يوسعون ذلك الشرخ ويسخّرون أقلامهم لخدمة الأعداء ويحبطون من معنويات الشعب ويوجهون الاتهامات للقادة وكأنهم جزءا من الصفقات والاختباء خلف مقولة ، بأنها فرضت عليهم وفوق طاقتهم، هذه المقولة كلام يراد به باطلاً وتهدف إلى اظهار قادتنا بموقف ضعفٍ وتخاذل و لاحول ولا قوة.

النقطة الأخرى التي تعمل عليها الدولة التركية هي مسألة حزب العمال الكردستاني، ومحاولة اظهار سبب عدوانها تحت حجة وجود الحزب في شمال وشرق سوريا، لكن حقيقية الدولة التركية توكد وعبر التاريخ معاداتها للشعوب، فالتاريخ العثماني مليء بالمجازر التي ارتكُبت بحق الشعوب، فمذابح الارمن والسريان (مذابح السيفو ١٩١٥) ، أمام أعيننا، وفي سنة ١٩٢٥ عندما اخمدت انتفاضة الشيخ سعيد، وانتفاضة سيد رضا في ديرسم والمجازر التي ارتكبت بحق العلويين في عام 1938، كل هذه المجازر سابقاً ، هل كان حزب العمال الكردستاني موجودا؟ هل تّدخل تركية في إدلب أو جرابلس وغيرها وتدخلها في ليبيا واليمن ومصر هل كل هذا هو بسبب حزب العمال الكردستاني؟ طبعاً هذا مجرد أكاذيب.

لكن عندما تدعي تركيا ذلك نستطيع أن ندرك السبب، ولكن أن ينجر بعض الكتاب ويكونون لسان حال الدولة التركية، ويشرعنون عدوان تركيا على شعوب شمال وشرق سوريا واعطائها الحق في ارتكاب المجازر ويقفون بصف الاتراك دون وعي والبعض عن دراية وكأن لسان حالهم تقول بأنه اذا كان حزب العمال الكردستاني غير موجود في الشمال السوري فأن اردوغان سيتوقف عن عدوانه وعن حملته الشرسة وستصبح تركيا كالحَمل الوديع، وهي مجرد طريقة بالتفكير غير صحيحة، فتركيا عارضت الاستفتاء في الإقليم ليس بسبب حزب العمال الكردستاني وهي تمنع الكرد حتى الدراسة بلغتهم ليس بسبب حزب العمال الكردستاني، وهي كررت على لسان مسؤوليها ولأكثر من مرة وعبر تاريخها الدموي إنها لن تسمح بتأسيس أي شيء يخص الكرد.

تاريخ الدولة التركية هي تاريخ للإبادة والمجازر بحق الشعوب وهي ترى في كل شخصية او حركة ديمقراطية وكأنها جزءا من حزب العمال الكردستاني فكل من يطالب بالتغيير هو في نظر هذه الدولة إرهابي يجب محاربته ولذلك فإن وضع الأقلام في خدمة هذه السياسة وتكرر مقولات وحجج هذه السلطة وكأنها تتحدث بصدق هو خدمة مجانية تقدم لهذه الدولة التي ترتكب المجازر والتغيير الديمغرافي بحق الشعوب.

زر الذهاب إلى الأعلى