مقالات

الشعوب لا تفنى

ربما يخلو التاريخ من مثال كمثال الشعب الكردي, كشعب تعرض لمحاولات الإبادة والصهر والإنكار على يد أعدائه, وكذلك يخلو التاريخ من حالات مشابهة لحالات الخذلان والغدر الذي تعرض له الشعب الكردي من الحكومات والأنظمة في العالم, ولكن تبقى الحقيقة الساطعة أنه شعب فولاذي, فمثلما الفولاذ يشتد ويقوى أكثر وأكثر كلما تم تسخينه بالنار وطرقه, فإن الشعب الكردي جعلته حالته الفريدة من الظلم الذي تعرض له على مر التاريخ يتحول إلى شعب قوي وعصي على الإبادة, بل وعلى العكس من بقائه كشعب ساكن فقد أصبح ريادياً في منطقة الشرق الأوسط, رغم عدم امتلاكه لكيان سياسي دولي كبقية شعوب العالم, إلا أنه تمكن من تنظيم نفسه خارج إطار الدولة وقدم نفسه للساحة الدولية كند للدولة, من خلال نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية, وتمكن الكرد من ضم الشعوب التي تعيش معهم على نفس الجغرافية إلى تلك العملية التنظيمية التي شكلت جسم الإدارة الذاتية ومؤسساتها المختلفة.

تأتي استماتة الأنظمة المستفيدة من استمرار المعاناة السورية في إبعاد الإدارة الذاتية عن جميع المحافل الدولية التي “تسعى لحل الأزمة” من يقينهم التام أن تلك الإدارة ستقدم الحل, في وقت لا تريد تلك الأطراف أي حل, بل أنها تستخدم تلك المحافل من أجل إدارة الأزمة وإطالة أمدها, ومن جهة أخرى فإن تلك الأطراف لا تريد حلاً على مقاسات الشعوب وطموحاتها وتطلعاتها للحرية والديمقراطية, إنما تريد حلاً على قياس الأنظمة؛ إنها تريد حلاً يضمن ديمومتها واستمرارها وبقاء مصالحها.

هناك عامل مشترك بين جميع الأسماء والأشكال التي حاربت الكرد ومشروعهم الديمقراطي منذ بداية الثورة ولتاريخ اليوم, وذلك العامل هو أن كل تلك الشخصيات والتنظيمات السياسية والعسكرية وحتى المدنية تتغذى من منبع واحد وتحارب بالوكالة عن طرف واحد وهو النظام الحاكم في تركيا, وتلك حقيقة كان الشعب الكردي من خلال قيادتيه العسكرية والسياسية متيقظاً ومدركاً لها منذ البداية, وبرغم أن الإدارة الذاتية حاولت في بداية الثورة أن تبني علاقاتها مع الدولة التركية على أساس حسن الجوار, إلا أن الدولة التركية أبت إلا أن تستمر في نهجها المعادي لكل قيم الحق والعدالة والخير, فاستمرت في حربها ومعاداتها للكرد بشتى أشكال تلك الحرب, ودخلت في بازارات مع القوى الإقليمية والدولية, فقط وفقط من أجل طمس وسحق القضية الكردية التي تحتوي في داخلها قضية كل الشعوب الأصيلة في جغرافية كردستان.

لقد وصلت الدولة التركية إلى وضع مزري جداً داخلياً وخارجياً, والأزمات في داخل تركيا تنحو نحو مزيد من التعمق ويوماً بعد يوم تغدو إمكانية حل تلك الأزمات أصعب من اليوم السابق, وكل ذلك بسبب غرور وأطماع السلطان العثماني الحديث الذي يجرّ الدولة التركية نحو الهلاك بسبب سياساته الرعناء, وبسبب عدم قابلية الفاشيتين الدينية والقومية في تركيا للتغيير.

إن النظام الحاكم في تركيا بشقيه الديني والقومي الممتزجين مع بعضهما قد أضحى نظاماً متهالكاً ومهترئاً, وما يشنه هذا النظام من حرب على شمال سوريا سوف يسهم في الإسراع من وتيرة سقوطه وانتهائه, والملف الإجرامي لذلك النظام قد أضحى ممتلئاً وجاهزاً لكي يوضع على طاولة العدالة الدولية وتتم ملاحقته قضائياً بسبب ما ارتكبه ويرتكبه ذاك النظام من جرائم ضد العدالة الدولية.

برغم كل تلك الضراوة التي تتسم بها الحرب التي تشنّها الدولة التركية ضد الشمال السوري, إلا أن المقاومة العسكرية والسياسية والتنظيمية التي تلاقيها تركيا من الشعبين الكردي والعربي قد رسّخت وثبّتت حقيقة لا يمكن حجبها, وتلك الحقيقة هي أن الشعوب لا تفنى.

زر الذهاب إلى الأعلى