مقالات

الحنين إلى العثمنة

حنَّان مامد

لا يكاد يمر يوم من يوميات التقويم حديث العهد للدولة التركية إلّا ويتم فيه السعي لوضع سياسات واستراتيجيات للعودة إلى ما قبل القرن العشرين حينما كانت السلطنة العثمانية تسيطر باحتلالاتها على أراضٍ شاسعة في الشرق الأوسط وأجزاء من أوروبا والقِرم وأفريقيا بعد الغزو والنهب والسلب المطعّم باسم الدين الإسلامي وتوحيد العالم الإسلامي تحت عباءة السلطنة العثمانية.

لم تكن العثمانية حينها قادرة لوحدها بأن تسيطر على تلك المساحات لولا وجود التناقضات بين الاقطاب الدولية كفرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا آنذاك الذين كانوا يمارسون في حروبهم ضد بعضهم أساليب الحروب المباشرة وغير المباشرة والحروب الاقتصادية بالسيطرة على مضائق البحار والطرق البرية لذلك كانت مصالحهم الجيوسياسية والاقتصادية تتلاقى في أحايين كثيرة مع السلطنة.

وبالعودة إلى العهد الجديد أو ما يُسمى بعهد الجمهورية التركية التي أُقيمت على حساب اضطهاد الشعوب الأصيلة في المنطقة كالكرد والأرمن والسريان وارتكاب المجازرَ ضدهم بلغت درجة الإبادة البشرية يندى لها الجبين الانساني؛ فإن صُنَّاع القرار في تركيا يحاولون مرة أخرى العودة أو الحنين إلى العثمنة وتطبيقها كقالب سياسي وأيديولوجي لمعظم ساحات الصراع في الشرق الأوسط.

لقد كانت بداية تطور هذا الاسلوب والمنحى في العقود الأخيرة من تاريخ الدولة التركية عن طريق التركياتية البيضاء والحمراء والأحزاب العلمانية بقيادة حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية التركية الفاشية إلّا أنها لم تلقَ آذان صاغية لدى القوى الكبرى وأصحاب القرار العالمي بسبب نرجسيتها وتقوقعها على ذواتها العنصرية الفاشية في تكوين صورة التركياتية المتعالية على شعوب الشرق الأوسط.

لكن مع ظهور التركياتية الخضراء المختومة بطابع إسلاموي بزعامة حزب العدالة والتنمية والذي هو بالأساس مشروع غربي يستطيع عن طريق هذا الحزب من الوصول إلى العقلية الاسلامية وأدلجتها وفق الطراز الأوربي الأمريكي الغربي، وما كان لقاء اردوغان مع الرئيس الأسبق جورج بوش في أعوام ٢٠٠٢ و ٢٠٠٣ إلّا لهذا الغرض حيث قَبِل اردوغان شروط الطاعة واعتماده للسلطة الاسلاموية المعتدلة في الحكم والتعامل مع الدول الشرق أوسطية.

إن استراتيجية الغرب واضحة في هذا المضمار فهي تنتهج منذ قرون سياسة السيطرة وخلق التناقضات ولعل استمرارية هذا المنهج يؤدي بالفعل إلى ظهور التناقضات في الأيديولوجيات الرسمية للدول المتعددة الشرقية منها والغربية.

وبينما الآن ما تحاوله أمريكا بفرض هيمنتها العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية على العالم بمعزل عن حلفائها التقليديين الأوربيين فإنه حتى داخل البيت الغربي يتجلى لنا التصدع والاختلاف في الرؤى والاستراتيجيات وهذا ما تستغله أنقرة في كسب الوقت والرهان لاستمرار ديمومة سلطتها، إلا أنها بالنهاية بُنيت وتأسست وفق الأيديولوجية والهيمنة العالمية واستمرار وجودها أو عدم وجودها مرهون باستراتيجيات الدول الكبرى كما حصل عندما انتهت الحرب العالمية الأولى وانتهت معها السلطنة العثمانية واستُبدل بكيان جديد اسمه تركيا بقرار وتشاور من الحلفاء وفقاً لمصالحهم العليا.

وحديثاً يُعتبر مشروع ما يسمى الربيع العربي أحد أهم مداخل العثمنة الجديدة إلى العالم العربي والاسلامي والشرق الأوسط.

حاول حزب العدالة والتنمية أن يكون رأس الحربة في تطبيق منهج الفوضى الخلاّقة في الشرق الأوسط لاستمرار ديمومته في وضع نفسه  كفاعل أو طرف مؤثر في صنع القرار، وبالفعل قام الغرب بدعم سياسات أنقرة في الخمس السنوات ما بعد أعوام ٢٠١١ وذلك لقولبة الشرق الاوسط وفق الاستراتيجية المُتَّبعة للسيطرة على مكامن القوة والتأثير في العالم.

إلا أنه وكما هي العادة العثمانية والتركية فإن لحظات التكبر السياسي والعسكري وتحقيق بعض الأهداف لها تحاول أن تنفرد وتزيد من مطامعها اللامتناهية في السيطرة والاحتلال والتمرد على سياسات الغرب وخلق المشاكل مع الشعوب؛ تكون نقطة تحول لدى مجاميع السياسات الغربية وبالتالي تكون نقمة لها وخراب مدمر على الشعوب الآمنة في الشرق الأوسط التي عانت طوال القرون الخمسة الاخيرة من استبداد عقلية الفاشية التركية؛ لذلك نرى مؤخراً مدى محاولة تركيا بأن تصل إلى أبعد نقطة في الولوج للسيطرة على المناطق الجيوستراتيجية من خلال الاحتلالات المباشرة وغير المباشرة وخلق الفتنة والقلاقل في الشرق الاوسط وعقد الصفقات اليومية البراغماتية مع مختلف الدول واللوبيات في سبيل القضاء على كل حركات التحرر الديمقراطي الكردستاني واضطهاد الشعوب والمكونات الآمنة وعقد التحالفات الهشة مع الدول في سبيل تحقيق مصالحها الاقتصادية والأيديولوجية وكل ذلك أعتبره بمثابة الهروب الى الأمام ودرء الانهيارات الداخلية والخارجية لواقع الدولة التركية المتكئة على أحلام وخيالات استعادة قوتها ومطامحها في الانفراد في السيطرة والنفوذ بمعزل عن القوى العالمية، وهذا ما يفضي إلى حدِّ اليقين بأن تركيا تشعر بالحنين إلى العثمنة!

زر الذهاب إلى الأعلى