مقالات

  الثورةُ بينَ الوعي ورُهاب التغيير

 دلبرين فارس

تقلقُ النفسُ البشرية من المجهول، ويقلقُ الكثيرون مما بعد التخلّص من الطغمة المتسلطة على الرقاب، ويصاحبهم القلقُ أيضاً من سير الحراك الثوري ومن منسوب وعي الفئة المحرّكة لهذا الحراك “شباب الثورة”   ومن قدرة الشعوب على حماية حراكها وتطويره وتحمّل ثمن التغيير.

 طبعاً العيشُ لعقودٍ من الظلم والاستعباد يُفقد الشعوبَ ترياقَ النهوض والتمرّد، ألا وهو الثقة كونها مفتاح امتلاك الإرادة، فمَن لا يملك الثقة بالنفس لا يستطيع أن يثقَ بأيّ تغيير يطرأ في محيطه القريب والبعيد ولن يتمكن من تجاوز رُهاب السُلطة والتغيير.

 تعتبرُ منطقتنا نموذجاً حياً لهذه الحالة، فهي تمرّ بمرحلة تحوّل شاملة نعي ونفهم تماماً كيفيّة حركتها وتطورها،  ونعي قوانينها الطبيعية والوضعية التي تسيّرها، ونثق تماماً بالمستقبل المجهول المخيف للكثيرين، ومن الطبيعي بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط وخاصة (العرب والكرد والسريان والترك…) والعشرات من الإثنيات العرقية والدينية الخوف من التغيير، كونهم من طرفٍ عاشوا تحت نير سلطاتٍ أفقدت هذه الشعوب الثقةَ بالنفس وجرّدتها من الإرادة والتعبير عن كيانها الإنساني في حرية التفكير والتعبير والانتماء، فكلّ تفكيرٍ وتعبير وانتماءٍ خارج عن سلطة الطغمة المتسلطة بشكلها الدينوي أو القوموي كانت تُقمع بأبشع الأساليب، بالطبع لايزال هذا الأسلوب هو المُتبّع.

ناهيك عن أسلوب التغييب والتضليل والتخدير المتبّع من قبل تلك الأنظمة وباحترافيّة تكاد تكون أقرب إلى الحقيقة، وسلبت من هذه الشعوب حتى آلية التفكير ألا وهو العقل، ولم تكتسب  شيئاً من الوعي والتفكير طيلة العقود المنصرمة سوى الطاعة العمياء( الرُهاب) والتسوّل والفساد، لدرجةٍ  يمكن نعت شرق أوسط هذه الحقبة بالشرق الأسود.

 لكن ومع هبوب عواصف التغيير تبدّدت شيئاً فشيئاً هذه المخاوفُ على الرغم من أن هذا القلقَ مُبرَّرٌ ومفهوم في الإطار السابق الذكر، إلّا أنّه لا ينبغي أن يتحولَ إلى عائق أمام هذه التغييرات والتي يحقّ نعتها بالثورة،  ويجب تحويل هذا الخوف والقلق إلى قوّة دافعة تحفز على العمل الجاد من أجل ابتكار الوسائل والطرق التي تحمي هذا الحراك وتطوّره بالاتجاه الصحيح، نحو تحقيق التحوّل الذي يسعى إليه القطاع الشعبي الذي مزّق ستارَ السواد هذا.

فالثورة عملية تغيّرٍ وتمرّد وتطور طبيعية، تدفع بالطبيعة بكل مكنوناتها تقادماً إلى الأمام، إلى حالة متجاوزة للماضي، وفي الحراك الثوري للمجتمعات، تنكشف حقيقة الأنظمة، و تتجلى وتخلق حقيقة الثورة وحتميتها، إذ تكسر كلَّ قيود الإخضاع التي عملت السلطةُ على تكريسها لعقود طويلة، وتتخلص من أوهام الخنوع والخوف التي كانت تمنعها من رؤية الحقيقة، وتستعيد الثّقة بالقدرة على التغيير.

إنّ مجرّد التمرّد على كل الحواجز النفسية والعقلية  وتحرير العقل من براثن أوهام ولويثيان السلطة يُعدّ بمثابة لحظة وعيٍ تاريخي ونقطة التحول التي تؤذن بولادة جديد.

 وبمجرد جريان تلك الأودية الجافة  تصبحُ  الثورةُ كسيلٍ جارف تحمل بكل قوتها كلَّ ترسّبات الماضي، تفتتها وتقذفها خارجَ مجراها.

وكنتيجة فإن تجاوزَ أدوات التسلط التي كُرِّست في نفوس عموم شعوب الشرق الأوسط، واحلال معاني الثورة كالحرية والتعايش والتشارك والتضحية؛ هذه المعاني التي استخدمتها السلطة عبر التاريخ لخدمتها وعكستها بأساليب الترهيب والتزييف والخداع، تعتبر خطوة من خطوات إنجاح الثورة وضرورة لمرحلة التغيير. حقيقةً القولُ بما بعد الثورة زيفٌ من نوع آخر أو رُهابٌ مزمن، لأنّ الثورةَ ليست عملية مرحلية، فأي سكونٍ فساد وأي حركة إحياء، ومن هذا المنظور فإن حقيقةَ الثورة هي في تطورها وتقدمها وديمومتها.

الشعبُ في الثورة يمارس ويتعلم على أشكال التنظيم والإدارة الذاتيّة، والتي كانت مُحتكَرة من قبل السلطة وتسيّرها لذاتها، وعندما تنطلق الثورة يدخل الناسُ في صراعٍ قاسٍ وعميق وحاد مع السّلطة بكل أنواعها وحجميتها والتي تعمل بأساليبها على إرهاب المجتمع وتقسيمه، هذا الصراع الكثيف يُكسب “الطبقة” الثائرة خبراتٍ هائلة في مجالات مختلفة، اجتماعية، سياسية، ثورية… وقيماً ومفاهيمَ إنسانية وثوريّة، وتفرز طليعة  ثوريّة واعية كماً ونوعاً، وتمتلك وعياً وخبرات سياسيّة واجتماعيّة فرضتها قساوة الصراع وكثافته وتعدّد مستوياته، ويمتلك الوعي الكافي لكشف المتسلّقين والانتهازيين ومناورات الأنظمة، واستغلال الخارج واحتوائه للثورة، فالثقة بالنفس وامتلاك الإرادة  والتجربة والممارسة العملية للثورة هي الشرط الأساسي لتطور الوعي الثوري، والذي يحرّر الشعوبَ ويبدد مخاوفها، ويؤسّس لوعيٍ جمعي أقرب إلى الواقع، وأكثر تقدّماً وتحرّراً.

 ومن هنا فإنّ بين الوعي والثورة، علاقة جدليّة واضحة والتطوّرات لكبرى الحاصلة حقيقة تاريخيّة يفرضها الصراع المتواصل،  أي ديمومة الثورة.

زر الذهاب إلى الأعلى