مقالات

البنية الروحية للأمة الديمقراطية

وليدة حسن

يرى بعض المؤرخين والفلاسفة؛ أن الإنسان هو تطورٌ طبيعيٌّ لنواة الحياة التي نُشِأتْ بالصدفة عبر ملايين السنين، على إثر الانفجار العظيم، والسبب الاصطفاء الطبيعي أو البقاء للأفضل، حيث حصلت العديد من التحولات الجينية في صنفٍ معينٍ من الحيوانات التي أدت إلى تطوره إلى الإنسان العاقل، من بقية المخلوقات واصطفته بالحصول على ملكة الإدراك منذ سبعين ألف سنة على أقلِّ تقدير، وبهذه التطورات المذهلة بدأ الإنسان رويداً رويداً بالانفصال عن عالم الحيوان، والبدءِ بمرحلةِ البحث عن الذات بجملة من الاستفسارات والاستفهامات، واستكشاف محيطه وعالمه المليء بالأسرار، حاول حماية ذاته ضد الخطر المُحدقِ به؛ فبدأ بالتجمع – كونه إحدى وسائل حماية الذات- على شكل مجموعات بشرية، والعيش في مكان معين معتمداً في ذلك على القطف والقنص، وظهرت ريادة المرأة في هذه الحقبة، وطبعت المجتمع بطابعها وخصائصها النابعة من جوهرها، فعلاقة المرأة بالطبيعة قائمة على التأقلم والتناغم والوئام بكل أحيائها (الإنسان، الحيوان، النبات، الأرض)، فبدأت بمعرفة أنواع الأعشاب الضارة منها والنافعة، تربية الأطفال، تنظيم الحياة المجتمعية، ترويض الحيوانات. وبرزت مفاهيم العدالة والمساواة عبر قانون الكلان (إما الكل أو لا شيء)، فكان النشاط الإنساني قائماً على قيم أخلاقية ومعايير (العدالة، الحق، الواجب، الوجدان، الضمير، التعاطف مع الآخرين، ونكران الذات في سبيل الجماعة) وهكذا ترسخ تنظيم المجتمع المتمحور حول المرأة، حيث يقول القائد والمفكر عبدالله أوجلان: “الأم هي الحقيقة الأقدم والأمتن في تشكيل المجتمع”، ونالت المرأة القدسية فأصبحت بمنزلة الآلهة، وهذا ما تؤكده جميع الاكتشافات الأثرية، والإنسان ضمن المجتمع الطبيعي هو المجتمع، وأن أشد عقاب يمكن أن يتعرض له الفرد في حال قيامهِ بعملٍ مُنافٍ لأخلاقيات ونُظُمِ المجتمع، كان الطرد خارج الجماعة، فيصبح بعيداً عن الحياة المجتمعية، أي الفناء بالنسبة له.

التقديس إحدى سِمات المجتمع الطبيعي الذي يرى إن لكل شيء روح؛ وهو حي يحس ويتأثر، وكان المقدس الأول للمجتمع هو الطوطمية التي أدت إلى زيادة تماسك المجتمع ورصانته، فتمسك الفرد بقيم المجتمع والبقاء ضمنه، لم يكن مبيناً على فكرة العقاب، بل كان أرفع من ذلك؛ وهو إرضاء الذات والانغماس في الحياة المجتمعية، وفي سياق التطور التاريخي الحاصل في ملكات عقل الإنسان تطورت اللغة. فالرمزية لم تكن مجرد وسيلة اتصال فقط؛ بل هي وسيلة معرفية، وبتطور اللغة تتطور الأدوات وما الثقافة المادية إلا نِتاجٌ للثقافة المعنوية.

 ولعلَّ أعظم ثورة شهدتها الإنسانيةُ هي الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف عام، وهي مُحصلةُ نِتاجِ الثورة الذهنية المتوافقة مع الطبيعة، فالثورة الزراعية جاءت نتيجة جهدِ آلاف السنين من الملاحظة والتجربة التي أعطت النتيجة، أي البدءُ بزراعة البذور وحصدها عن وعي ومعرفة، وبهذا فالقيم التي كانت تُعاش في القرية والمرتبطة بثقافة الزراعة؛ شَكَّلت أهم معطيات الأفكار ومستوى تفسير الحياة المستقرة، بالإضافة إلى التطور الملحوظ في أدوات الإنتاج والتقنيات والعلوم التي شكلت فيما بعد أساس الثورة الصناعية.

ومثلما كان بزوغ شمس الحضارة والإبداع الإنساني التي أشرقت في ميزوبوتاميا والهلال الخطيب؛ الأمر الذي تؤكده جميع البحوث الانثربولوجية (علم الإنسان) والاركولوجية (علم الآثار) ومنها أيضاً ظهرت مفاهيم كالسلطة والاحتكار.

ومع انهيار ثقافة الآلهة الأم؛ وإحكام الرجل سلطته المستندة أساساً على ثقافة الصيد القائمة على المكر والخِداع وكيفية الإيقاع بالضحية، إن هذه السلطة التي تشكلت بالاتفاق بين الرجل المسن ورجل الدين (الشامان) والعسكر؛ كان الهدف هو القضاء على ثقافة الآلهة الأم، ومع تمأسس نظام السلطة الأبوية بدأت تطفو مصطلحات ومفاهيم جديدة مثل الملكية الخاصة، وظهور الثنائيات (العبد- السيد، الظالم- المظلوم،…) وفتحت الأبواب أمام التخريبات ضد الطبيعة، وهُمِّشَتْ الأخلاق المجتمعية وقيمها، وتمَّ وضع قوانين على أساسها القوى الحاكمة شرعنت لنفسها بوضع المجتمع تحت حاكميتها، وبذلك أفرزت ثقافة قائمة على الاحتكار واستغلال الإنسان للطبيعة، وهي بعيدةٌ كل البعد عن المقاييس والمعايير الأخلاقية والإنسانية، وكذلكَ كانت المرأة أولى ضحايا النظام الأبوي وبعدها الدولتي، فأصبحت عبدةً وآلةَ إنجابٍ فاقدة لأدنى حقوقها كإنسان، بعدما كانت قد بلغت مرحلة الألوهية، وهكذا ومنذ خمسة آلاف سنة والمجتمعات غارقة في الفوضى التي بلغت ذروتها في عهد الحداثة الرأسمالية، التي سعت إلى إضعاف الروح والقيم المجتمعية وتهميشها، وإنشاء مجتمعات افتراضية وذلك بزيادة الشرخ بين الفرد والمجتمع، وعملت على خلق الصراعات وتأجيجها، وتكريس المفاهيم والمصطلحات، والعمل على ترسيخها حتى أدخلتها في أدق تفاصيل الحياة اليومية كالجنسوية والشوفينية والطائفية والقوموية والدينوية. فالأنظمة المركزية تمخضت من رَحِمِ المجتمع الطبيعي الأمومي، وتنامت كأخطر انحراف في تاريخ الإنسانية، وبتصحيح ذلك الانحراف ظهرت نظريات ورؤى فلسفية تحدد مسار الانحراف والسعي إلى الحل، فجاءت براديغما المفكر والفيلسوف عبدالله أوجلان (الأمة الديمقراطية) أساساً على ثقافة المجتمع الأمومي الطبيعي حيث يقول: “الإنسان يستقي كل قوته من المجتمع، ومستوى أرقى العلوم والحِكَم مرتبطٌ بالمجتمع، في حين أن تقييم الحياة الاجتماعية على أنها محضُ كميات ومناظر فيزيائية بسيطة هي أشنع خيانة ارتكبتها الوضعية بحق الإنسان”، إن جماليات القيم المعنوية المتمثلة بثقافة القرية وثقافة الثورة الزراعية ظلت في ممارسة حياتنا اليومية، وانتقلت إلينا عبر آلاف السنين، وظلت قيم الاحترام، التعاون، التقدير، إغاثة الملهوف، العائلة، الحب، العطاء، الوجدان، الضمير، السلام، بالإضافة إلى الكثير من القيم المعنوية والمجتمعية التي ظلت محافظة على رونقها الإنساني، وغير منقطعة عن سلسلة المعاني الروحية في المجتمع الأمومي الطبيعي إلى يومنا الراهن، رغم ما اعترته بعض الصدأ وإدخال مفاهيم غريبة بعيداً عن قيم المجتمع (ثقافة خمسة آلاف سنة).

إن ذلك الإرث الحضاري الثقافي الروحي المعنوي الشفاف سيلقى بزوغ فجره من جديد، ويزداد رونقه بثقافة الأمة الديمقراطية.

زر الذهاب إلى الأعلى