مقالات

الاستبداد ما بين الذهنية العثمانية والاردوغانية

ذاكرة الشعوب حية لا تنسى ما مرت عليها من مآسي ومجازر, والتاريخ يضم بين طياته الكثير من الحقائق والروايات التي حفرت تلك المآسي على حجارة تتناقلها الأجيال لتتعرف على هول النزعة الاستبدادية التي مر بها التاريخ البشري. تلك النزعة الدموية كانت نتيجة ذهنية بعض الفئات الحاكمة التي أصدرت قرارات وفرمانات تم بموجبها السماح باستخدام كافة صنوف القتل والتعذيب والتهجير بهدف إبادة أعراق بشرية تختلف معها إما “بالعقيدة أو المذهب أو القومية”. وفي أغلب الأحيان يتم ذلك تحت شعارات تكون ذات دلالات رمزية مقدسة كالحرب من أجل إعلاء كلمة الله أو الجهاد المقدس أو محاربة الكفرة والملاحدة، ولعل أبرز تلك الفئات الحاكمة والتي جُمعت فيها خصال الاستبداد والقتل وارتكاب المجازر؛ هي ذهنية الدولة العثمانية فالتركية لاحقاً.

من دون معرفة البنية التاريخية لنشوء الدولة العثمانية لا يمكن فهم الذهنية اللاحقة لها، فمع نزوح موجات القبائل المغولية من شمال غرب الصين “الهضبة المنغولية” صوب آسيا الصغرى وميزوبوتاميا واستقرار بعض قبائل الأوغوز في أسيا الصغرى في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي مستفيدين من ضعف الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تؤول إلى الاضمحلال والانهيار آنذاك؛ بدأت تلك القبائل تتجمع تحت سلطة عثمان جد العثمانيين بعد أن أخضعهم سلطان السلاجقة تحت كنف سلطانه ونتيجة الفوضى العارمة في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي آنذاك تمكن العثمانيين من تأسيس دولتهم بحجة حماية العالم الاسلامي واستغل السلاطين العثمانيين فيما بعد الدين الاسلامي كشعار للتوسع واخضاع الشعوب لسطوة حكمهم.

حيث قاموا بفرض هيمنتهم على أجزاء شاسعة في ثلاث قارات آسيا، أفريقيا وأوروبا وعلى ثلاثة بحار (البحر المتوسط والأحمر والأسود). حكمها 36 سلطاناً وخليفة واحد، ومنهم من تناوب مرتين أو ثلاث مرات على الحكم بدءاً من1299 إلى 1923، ولحكم هذه الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف كان يتم تعيين الوُلاة من قبل السلاطين ليقوموا بحكم تلك الولايات وذلك لبعد الأطراف عن المركز, والكثير من السلاطين تميزوا بالحكم الصارم وضرب البلاد بيد من حديد, حيث تم زج الشعوب التي كانت تحكمها في أتون حروب كانوا هم وقودها ولا يعلمون أسبابها ودوافعها سوى أنها لخدمة الإسلام والمسلمين, تلك السياسات أثقلت كاهل الشعوب ومعها انتشر الجهل والتخلف والفقر, وفُرضت الضرائب بالقوة, في سبيل السياسة التوسعية للدولة العثمانية التي شهدت تراجعاً في كل مناحي الحياة بشكل كبير.

كما عانت الشعوب التي كانت ترزح تحت الاحتلال العثماني من أبشع أساليب القمع والظلم والاستبداد, وتم إنشاء الفرق الحميدية على يد السلطان عبد الحميد الثاني بغية فرض المزيد من الحاكمية والسيطرة.

باتت الشعوب تتطلع إلى الحرية والتخلص من الظلم ومعها ازدادت آلية القتل والتعذيب حتى وصل الأمر إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الشعوب الأصيلة في المنطقة والتي تعيش فيها منذ آلاف السنين حيث تم تدمير أمجاد حضارات وثقافة عريقة قدمت للبشرية إرثاً تاريخياً, وقيم عظيمة, ولعل من الجرائم التي لا تزال آثارها باقية في الذاكرة القريبة الإبادة الجماعية بحق الأرمن والكرد والآشوريين والكلدان والسريان واليونانيين والصرب والعرب

 وبالرغم من القمع الشديد  الذي استخدمه العثمانيون لإخضاع الشعوب لكنهم لم  يستطيعوا إخماد ثورة الشعب الكردي الذي لم يقبل الخنوع والرضوخ للظلم والاستبداد.

كانت معاهدة سيفر عام 1920خطوة أولى لنيل الكرد حقوقهم  والتي نصت على حق الكرد  في إقامة دولة – (المواد 62-63-64) – لكن بعد استيلاء القوميين الأتراك على السلطة وإقامة الجمهورية التركية في العام 1923 تنكرت تركيا لحقوق الكُرد ورفضت كل بنود المعاهدة المتعلقة بمصير ومستقبل الكرد كشعب يعيش على أرضه، واستبدلتها بمعاهدة لوزان التي انتزعت من الكرد كل الحقوق التي نصت عليها معاهدة سيفر.

وبالرغم من ذلك لم يفقد الكرد الأمل وبدأت الثورات الرافضة للواقع الجديد الذي همش فيه الكرد وحقوقهم. وبنفس الذهنية الوحشية البربرية المستندة على ثقافة القتل والاستيلاء والغزو حارب الطورانيون الجدد الكرد.

ميراث القتل الذي ينتهجه حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان يمثل القاسم المشترك لثقافة القمع والاستبداد وخلاصتها؛ فمنذ بدء ما سمِّي  بـ”الربيع العربي” لم تكن الدولة التركية بعيدةٍ عنها بل سعت بكل ذهنيتها وأدواتها إلى إشعال فتيل الأزمة والحرب في المنطقة وسارعت إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية؛ فكانت حاضرة في عمق الصراع الدائر في كلٍ من تونس, ليبيا, مصر, اليمن وسوريا, وذلك عبر جناحها الأبرز (إخوان المسلمين) وبالأخص في سوريا, وعملت على تغذية الجماعات الإسلامية المتطرفة أمثال داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام وفيلق الرحمن والسلطان مراد وغيرهم، ومن خلالهم احتلت مناطق في الشمال السوري مثل الباب واعزاز وجرابلس, إلى أن انتهت الحرب بالوكالة على الساحة السورية فقامت باجتياح واحتلال عفرين بجيشها ومرتزقتها مرتكبة أبشع الجرائم على مسمع ومرأى من المجتمع الدولي.

اردوغان استغل الدين إلى أبعد الحدود وجعله في خدمة مصالحه وتعظيم ذاته بحيث يرى في نفسه حامي الإسلام ويحق له فعل أي شيء للوصول إلى أهدافه “الغاية تبرر الوسيلة”. ففي ليلة الهجوم على عفرين بتاريخ 19كانون الثاني المنصرم, قام الخطباء والأئمة في 90 ألف مسجد بتركيا بتلاوة سورة الفتح لشحذ همة المسلمين ضد الكرد الملاحدة!!؟؟.

ذات الخطاب الديني العثماني يستخدمه اليوم أردوغان معلناً نفسه السلطان الجديد على المسلمين  فقد قالها مراراً: “نحن أحفاد العثمانيين وسنسعى إلى إعادة أمجادنا”. الحلم التركي الأردوغاني بغزو المنطقة من جديد وبوسائل جديدة لم ينته، وسيبقى مستمراً مبتغياً السيطرة على المنطقة وإخضاع شعوبها ونهب خيراتها, هذه هي ثقافتهم وفلسفتهم في الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى