مقالات

الإدارة الذاتية والتحديات

قهرمان مامد

فيما كان الشرق الأوسط بتاريخه الحافل بتشكيل الممالك والإمارات والولايات وفق التقسيمات الإدارية لكل امبراطورية ومملكة حكمت هذه الجغرافيا الشاسعة، ظهرت في سطور هذه التقسيمات إدارات ذاتية وولايات تقوم بإدارة ولاياتها أو إماراتها وترتبط بمركز المملكة اسمياً مع تحقيق بعض الشروط التي كان من الواجب على تلك الإمارة تطبيق هذه الشروط لكي تُبعد نفسها عن تهمة الانفصال أو التمرد على المملكة.

القصد من هذا السرد التاريخي المُبسط هو أن فكرة الإدارة الذاتية وذاتية الإدارة ليست بالفكرة المُستحدثة أو المُختلقة بظروف سياسية آنية اللحظة والواقع بل هي إحدى المعادلات السيسولوجية والسياسية التي عاشتها مكونات وقوميات وشعوب المنطقة في الشرق الأوسط وإنْ اختلفت المضامين وأشكال وطراز تلك الإدارات ومسمياتها المتعددة في المملكة كالدويلة المُصغرة، إمارة، ولاية، نفوذ قبيلة، أو حتى اقطاعية من حيث منطق الخصوصية المجتمعية والتكوينية لشعبٍ معين.

أما في العصر الحديث ومع تطور نُظم العلم السياسي والتغييرات الجيوسياسية والاستراتيجية التي حصلت في العالم وبالأخص في الشرق الأوسط فإن مفهوم ذاتية إدارة الشعب أو الفيدرالية أو الاتحادية بمفهومها وإطارها الأوسع تغيرت بتغير وتطور هذه السياسات والاستراتيجيات.

إن الادارة الذاتية وبمفهومها ومضمونها في الابتعاد عن الفردانية الدولتية والمركزية القصوى تُعبِّر بشكل كبير عن تطبيق وتحقيق أسمى أنواع الديمقراطية في الدولة أو المملكة.

ولسنا هنا بصدد التجمل أو التغني بالمثاليات التي تكون بعيدة أحياناً عن الواقع إذا قلنا بأن الادارة الذاتية الديمقراطية المتشكلة منذ سنوات في شمال وشرق سوريا بين مكونات وشعوب المنطقة تعبر عن نفسها بمضمون ديمقراطي اتحادي طوعي حُرّ بعيدةٍ عن الانفصالية هادفةً في استراتيجيتها تحرير وحماية جميع الشعوب على أساس متانة الأخوَّة المجتمعية التي عاشت لآلاف السنين إلى جانب بعضها البعض.

بالرغم من شراسة الأزمة في سوريا والتي دمرت البشر والحجر ولم تبقَ دولة إقليمية وعالمية إلا وتدخلت في الصراع السوري وعمَّقت من نزيف جراح الشعب السوري الذي اكتوى واحترق بنيران أجندات ومصالح تلك الدول إلا أن مشروع الأمة الديمقراطية والذي طرحه القائد عبدالله أوجلان لإيجاد السلام في الشرق الأوسط والذي يعتمد في أحد أبعاده فكرة الادارة الذاتية للشعوب؛ فقد استطاعت الادارة الذاتية رغم حداثة عهدها أن تقطع أشواطاً وتَخطو خطوات اسطورية في خِضم المناخ والمحيط المعادي لها، وخاصة الدول الاقليمية وعلى رأسها تركيا بنظامها الفاشي المحتل.

إن حداثة الادارة الذاتية والتي نستطيع القول بأنها تجربة شابة كنظام واسلوب إداري أمام التجارب الدولتية القديمة في الشرق الاوسط والعالم استطاعت بإصرارها ونضالها وتصميمها ورغم الحصار المفروض عليها من الدول المحيطة أن تحارب وتعمل بعزيمة متواصلة لكي تلبي احتياجات كل مكونات وشعوب الإدارة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولم تتدعي يوماً الانفصالية عن حدود سوريا، بل على العكس تماماً فقد كانت الادارة الذاتية دائماً التوّاقة والسبّاقة للحفاظ وحماية حدود وسيادة سوريا من الهجمات الاحتلالية والتدخلات الإقليمية والدولية كما أنها تحافظ وتعتبر ثروات وخيرات سوريا الباطنية والظاهرية ثروات وطنية ويجب الحفاظ عليها وعدم الاستفراد بها وتوزيعها على الشعب بشكل عادل ومتوازن.

فسياسياً شاركت جميع المكونات والشعوب في التعبير عن نفسها وبثقافتها وتاريخها وخصوصيتها من دون أن يتعرض أي مكون لأي نوع من التهميش والإبعاد عن صنع القرار؛ فلم يتم التمييز على أساس العِرْق والقومية والدين والاثنية بل على العكس تم دمج جميع المكونات في قيادة وريادة مؤسسات الإدارة الذاتية.

وفي ما يتعلق بالجانب الاقتصادي فإذا ما قارنا مناطق الإدارة الذاتية مع باقي المناطق السورية فإننا نرى بكل وضوح ومن دون أي شرح تفصيلي أو تبرير؛ الفرق الشاسع من حيث تأمين سُبل العيش والموارد الأساسية التي يحتاجها الشعب والفرق الكبير في الدخل اليومي للفرد سواء الذي يعمل ضمن المؤسسات الرسمية أو في الأعمال الحرة.

أما عسكرياً فاستطاعت قوات سوريا الديمقراطية التي تُعتبر المنظومة العسكرية الدفاعية لهذه الإدارة أن تحمي مناطق الإدارة الذاتية من هجمات داعش والنظام التركي والاستفزازات التي تقوم بها الحكومة السورية بفضل التضحيات الجسام التي قدمتها هذه القوات رغم المؤامرات التي كانت تتربص بهذه القوات والبازارات والصفقات التي عقدتها الدول الاقليمية والتي كانت سبباً لاحتلال الدولة التركية المزيد من الأراضي.

لستُ هنا بصدد التجميل للإدارة وعملها لكن الضمير الانساني والوجداني والاخلاقي يُحتم علينا قول الحق وإظهار الفارق ما بين استراتيجية الإدارة الذاتية وبين المناطق المتبقية المشتعلة في سوريا، وبالتأكيد وكما قلنا في بداية الحديث أن التجربة مازالت شابة وقد تقع في أخطاء وعقبات عديدة بحكم التأثير الذهني السلبي الذي عاشته شعوبنا تحت وطأة الأنظمة الدكتاتورية والإقصائية السلطوية والتي قمعت جميع الثقافات والتطورات الادارية والحياتية لتُبقي البلاد في حالة من الجمود الفكري والإداري بعيداً عن مراجعة القرارات وأسلوب النقد والنقد الذاتي. بينما نرى بكل وضوح اسلوب النقد والنقد الذاتي الفعال الذي تعتمده الادارة الذاتية في عملها يأتي بنتائج مثمرة؛ فكم من قراراتٍ أصدرتها الادارة الذاتية ولاقت اعتراض الشعب فتراجعت عن تنفيذ تلك القرارات وصححت المسار فهذا إن دلَّ على شيء فأنه يدل على مدى حرص الإدارة وحيويتها وفعاليتها ومرونتها في الأسلوب الاداري الديمقراطي البعيد عن الفردانية في صنع القرار.

زر الذهاب إلى الأعلى