دراسات

الأسلوب ونسق الحقيقة (6)

تكملة دراسة الكاتب والباحث السياسي يوسف خالدي الأسلوب ونسق الحقيقة . 

الحلقة السادسة 

ثالثاً :

إذاً فالبحث عن الإنسان كنوع حقق ذاته ، في مجتمع خاص به ، يعد أسلوباً هاماً للبحث عن الحقيقة ونسقها . فالمجتمع بوصفه خزان للتجارب والمعارف تتكدس خلال عملية تراكمية طويلة ، لا تتحقق مع الفرد المنعزل عن المجتمع . شرط أساسي لوصول الإنسان إلى المعرفة وإلى الحقيقة ونسقها .

فالمدنيات تناولت بما فيها الحداثة الرأسمالية ، دراسة الإنسان بشكل منفصل عن التاريخ والمجتمع ، وتعاملت مع القضية على أنها منجزات لأفراد متمايزين عن مجتمعاتهم ومفصولين عنها .

إن مقولة لا مجتمع دون أفراد نجدها في عالم الحيوان وعالم النبات ، فكل نوع ملزم على العيش في تجمعات متقاربة ومتشابهة فلا غابة دون أشجار  ولا أسماك دون أسراب ولا مستعمرات دون نمل ، والفرق هنا في الجوهر ، والماهية ، والنوعية ، فالحضارات والمدنيات تنمو وتزدهر حيث التجمعات البشرية وحيث المجتمعات القادرة على تنظيم نفسها . ضرورة لا بد منها ، تأتي في المراتب الأولى ، من أسلوب نسق الحقيقة لدى أوجلان ، فديكارت وبيكون حينما طرحا أسلوبهما في البحث ، تم طرحه على مجتمع بعينه وكانت أفكارهما إنعكاساً لما كان يدور في تلك المجتمعات من أسئلة كانت تطرح وقضايا كانت مدار النقاش والبحث عن أجوبة لأسئلة كانت تشغل بها العقول ، تلك الأفكار التي طرحت ، لم تصدر عن أفراد كانوا منقطعين عن مجتمعاتهم منفردين في جزر مقطوعة عن البشر ، وإنما كانت ذات علاقة وثيقة بذاك المجتمع .

ما الذي يمكن إستخلاصه في دراستنا للمجتمع الإنساني :

المجتع يميز الإنسان عن الحيوان وباقي الكائنات الأخرى .

المجتمع يتكون من أشخاص ، فهو قادر على بناء الإنسان من الأفراد.

المجتمعات تنشأ ضمن شروط جغرافية وزمنية معينة فهي بذلك غير منفصلة عن الزمان والمكان ولا الجغرافيا .

كل الموجودات خاضعة للزمان وخاضعة للتغيير ، فالذي لا يتغير ولا يخضع لمفهوم الزمان هو التغيير .

المجتمعات لها إرتباط وثيق بالوجود النباتي والحيواني فالمكان الاوفر للغذاء هو الاكثر قابلية على وجود المجتمعات ونموها . وغياب هذا الوجود . يلغي فكرة إمكانية الوجود الإنساني .

بقدر ما نعي وندرك بأن الحقائق الإجتماعية قد نشأت وتكونت على مراحل مختلفة ، سنمتلك ذاك الوعي الذي يجعلنا قادرين ، على رفض وعدم قبول وجودها قائمة على دفعة واحدة ، بما ينافي مبدأ التغيير والتطور ، بفعل الزمان وتغير الأمكنة ، هذا الإدراك والوعي بالمسألة ، والتمنع عن فكرة القبول ، بتلك المصطلحات التي قدمتها الأنظمة على أنها ثابتة ، وشبه أزلية ، سيمنحنا قدرة كبيرة ومجالأ واسعا لنقدها وتفكيكها ، ومن ثم هدمها لإعادة بنائها من جديد .

يعني أوجلان بذلك ، فكفكة وهدم تلك المفاهيم التي رسخت الإعتقاد بوجودها شبه الأزلي غير المتأثرة والقابلة للتغيير ، من مؤسسات قمعية وإستغلالية ، لم تكن نتاجاً إبدياً ، بل نتاج مراحل مختلفة ، أنتجتها المجتمعات في مراحل زمنية ومكانية متعددة و متعاقبة .

الفرد لا يصبح عضواً منتمياً إلى الجماعة ، إن لم يتشيع بكل تقاليد وثقافة ذاك المجتمع ، المترع بالتقاليد والاعراف وبلغته والمشاركة بالنشاطات في المؤسسات الاجتماعية وفق تلك الاعراف والتقاليد والنظم , حيث الأفراد لا ينشأون وفق رغباتهم ، بقدر ما ينشأون وفق مشيئة مجتمعاتهم تلك ، لكن تبقى محاولات الفرد الساعية إلى التخلص بأشكال ما من تلك المشيئة المهيمنة للمجتمع ، والتصادم معها ، وإنبثاق مقاومات فردية او جماعية مناهضة لها ، تملأ ساحات الحوادث في التاريخ ، في كل مراحله .

بالنتيجة لا الفرد قادر على مغادرة المجتمع والعيش منفصلاً عنه ، ولا المجتمع قادر على إلزام الفرد وصهره كليا ضمن مؤسساته .

رابعاً :

مرونة ذهن الإنسان تمنحنا ، دفعاً قوياً بصدد خياراتنا للأسلوب ونسق الحقيقة .

إن معرفة طريقة عمل عقلنا مهمة جداً ، كي تصل مساعي الإنسان إلى نتائج مهمة ، فذهن الإنسان يتميز ببنية مرنة جداً منفتحة على تلقي الكثير من الإدراكات الصحيحة وبالقدر نفسه تلقي الإدراكات الخاطئة أيضا ، وبناء على ذلك ، قابلية الذهن هذه في الإستجابة إلى المؤثرات القادرة على التحكم بها لتكوين أفكار جديدة ، أو تغيير معتقدات وإتجاهات للرأي ، للفرد أو للجماعة من خلال التأثير على العواطف والمشاعر عبر التهديد أو الترغيب المرتبطتان بدافعي اللذة والألم ، كان لها دور كبير ولا زال كأساليب لتشكيل ، أو تغيير الإتجاهات النفسية ، للتحكم في تغيير الأراء والمعتقدات وبالتالي ، الذهنية عبر القهر والعنف المنظمين على مر آلاف السنين كي تكون منسجمة مع سياسات وأفكار تلك المؤسسات .

يستخدم أوجلان مصطلح العقل العادل ، القادر على إستخدام حقه في الإختيار الحر ، في مجال تفسير العلاقة بين الحقيقة والعدالة ، الناتجتان برأيه عن وجود نظام كوني ، لذلك فهو يرى بأن تاريخ الحرية ، أو تاريخ المجتمع ، قوة تربوية وتعليمية قادرة على إعداد وتأهيل أذهاننا ، لتكون قادرة على الإختيار بشكل سليم . في حين أن طرق التحليل النفسي تبقى ناقصة ، وقاصرة عن الوصول إلى المعرفة الصحيحة لوحدها ، كعلم أو طريقة ، وسبب هذا القصور يعود برأيه إلى أن هذه الطريقة تتناول الفرد بشكل مجرد ومنقطع عن المجتمع ، رغم التقدم الحاصل في مجال علم الإجتماع ، بكافة إختصاصاته ، وحيث لا زالت خطوات علم النفس الإجتماعي خجولة ومحدودة في هذا المجال كذلك علم النفس بأنواعه .

خامساً :

يمكن جعل الأسلوب وعلم الأبستمولوجيا ( نظرية المعرفة) . من خلال تحليلنا الخصائص الميتافيزيقية للإنسان ، أي تكونه خلال الفترة الميتافيزيقية ، بوصفها خاصية أولى للإنسان الإجتماعي ، لا زالت تلازمه بنسب متفاوتة ، فإن تم تجريد الإنسان من الميتافيزيقا فالنتيجة الحاصة لن تتعدى وصولنا إلى حيوان ثديي ، كما وصف نيتشه الإنسان الألماني القادم ، في تنبؤه بولادة ألمانيا النازية . فالبحث في الميتافيزيقا لدى أوجلان هام ، و يحتاج إلى دراسات جادة وعميقة للوصول إلى نتائج ، يمكن الحكم بموجبها على هذا الجانب في حياة الإنسان . وهو ينتقد بهذا الخصوص علوم الإجتماع من حيث إهمالها لهذا الجانب .

ما هي سمات وجوهر الإنسان الميتافيزيقي ؟

الأخلاق ، الدين ، الفن . مجتمعية الإنسان . أمور وقضايا تحتوي بين جنباتها الكثير من الميتفيزيقا ولذلك .

يرى أوجلان إن الإنسان مضطر لتكييف نفسه مع محيطه إلى مستويات تفوق قدرته العقلية والنفسية على تحمل حوادث مؤلمة أو مفرحة . الرفع والسمو بتلك القدرات ، أو زيادة تلك الإمكانيات المحدودة ، تحتاج إلى أفكار ومعتقدات وصور ، بل إلى مؤسسات ميتافيزيقية ، فحين لم يكن إسم الله معروفا في البدايات الأولى من حياة الإنسان ، والآلهة غير معروفة لديه وحتى قبل تعرفه بالرسل والأنبياء ، سعى إلى إبتداعه بأوصاف وهيئات مختلفة تتفق مع تصوراته ورغباته ، التي كانت تعوض له محدودياته تلك ، فعمل على تطوير الفنون وإطلاق العنان للخيال ، لتلبية إحتياجاته تلك .

يرى أوجلان :

بأنه لا فائدة من مطالبة الإنسان ببقائه ، ضمن الإطار الطبيعي المحدد يقدرات معينة ، منتقداً في هذا الإطار منهج ديكارت الذي يقودنا إلى الميكانيكية الصرفة ، والخاضعة لأحكام القوانين الوضعية .

إن عدم قدرة المجتمع على الإستمرارية ، دون وجود أطر أخلاقية يحتكم إليها الإنسان قد تصل بالإنسان إلى مستوى الروبوت من حيث الرقي ، لكنها لن تستطيع الحفاظ على التماسك الإجتماعي للأفراد دون أخلاق تنظم تلك العلاقات والروابط ، ويورد أوجلان مثلا فيقول :

إن إخضاع العلاقات الجنسية المؤدية إلى التناسل وربطها بقواعد وضوابط هي ضرورة لا بد منها لتحقيق ديمومة البشر . فبدون تحكم بها ، سيقود إلى إنفجارات سكانية هائلة .

لا يمكن تصور الإنسان دون موسيقى ورسوم معمارية واداب ، فالفن يلبي حاجة الإنسان إلى التمييز بين القبيح والجميل كعوامل مولدة للسلوك . وينمي لديه الإحاسيس بالجمال .

لا يمكن شرح السياسة بالقوانين فقط ، كون السياسة مشحونة بالأحكام الميتافيزيقة . وتقودنا إلى مفهوم القطيع ، والإنسان الآلي ، إن تم الإقتصار على القوانين فقط .

ميادين الحقوق . والفلسفة ، والدين وحتى العلموية في الكثير من مضامينها . يراها محتوية على جانب كبير من الميتافيزيقا ، بهذا يكون اوجلان قد حدد مكانة الميتافيزيقا في حياة الفرد والمجتمع ومن خلال هذا التحديد سنتناول موقفه من الميتافيزيقا وتقييمها في الحلقة القادمة وهي الحلقة الأخيرة ، في هذه الدراسة من الإسلوب ونسق الحقيقة .

يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى