الأسلوب ونسق الحقيقة (5)
تكملة دراسة الكاتب والباحث السياسي يوسف خالدي الأسلوب ونسق الحقيقة .
الحلقة الخامسة
إن تقييم هذه المرحلة التاريخية , على أنها مرحلة , تحتضن أساليب جديدة ونظريات مختلفة تتناول البحث عن الحقيقة من أوجه متعددة ومختلفة ، تزرع في النفوس آمالاً ، في إعادة بناءالمجتمع ، تجسد تطلعات البشرية في ملامسة عيش اليوتوبيا ، والحياة الفاضلة التي تليق بالإنسان ، حيث معرفة القيمة الحقيقية للأساليب المتبعة تتطلب منا ، التحلي بقوة الإرادة ، والعزم على الوصول إلى الحرية .
رحلة البحث هذه سنبدئها برفض ريادة ، وتصدر كل من ديكارت وبيكون ، بعد دحض ثنائية التمييز بين الذات العاقلة – والموضوع الجامد غير الحيوي والروح – والبدن ، ولأجل تحقق ذلك يفترض أوجلان إعتماد الإنسان مبدءاً أساسياً لأجل ذلك ، بوصفه مجموعاً للحقائق المتكافئة من خلال العوامل التالية :
- الذرات التي تتشكل منها بنية المادة تتوفر في الإنسان بنسب عالية من حيث العدد أو الترتيب .
- ذهن الإنسان بوصفه قمة المرونة بين الذهنيات الأخرى .
- قدرة الإنسان على العيش ميتافيزيقاً مع نجاح الإنسان في بناء الحياة الإجتماعية .
هذه الخصائص متوفرة وبشكل متداخل ومتكامل داخل جسم الإنسان يشكل منبعاً ومصدراً لبحث يكافىء ربما، عالم الكون وإستيعابنا له أو نقطة البدء لفهمه على أقل تقدير .
يمكن دراسة المادة في جسم الإنسان وفحص الروابط بينها ، مع الإنتباه إلى أن هناك صعوبات قد تواجه هذا المسعى ، إن أردنا إجراء التجارب في مختبرات الحداثة بسبب تطويقها بمجموعة من القرارات والقوانين الصارمة التي قد لا تسهل لهذا العملية .
مع الأخذ بعين الإعتبار صعوبة بل ربما إستحالة تمكن الفاحص أو الباحث ، قياس العلاقة بين الفاحص والشيء المفحوص في فيزياء الكوانتوم ، إذ قد يرى الباحث بعض التغيرات في المادة المراقبة ، كذلك المادة نفسها قد تتوراى وتتمكن من الإفلات حينها عن عين وأدوات الفاحص .
أمام هذا الواقع ، لا مفر من الإستبطان نلجأ إليه ، لتفادي هذا الإحتمال وهو قوي ، و يمكن إدخال إسلوب ديمقريطس الحدسي في كشفه عن الذرة ، بعيداً عن عالم المختبرات والتجربة كاسلوب مرادف ومرافق وسليم في الإستعانة بإدراكاتا الحسية .
بتوسيع داائرة هذا المبدأ ، نستطيع ملاحظة كافة القوانين الفيزيائية والكيميائية في الإنسان ، حيث لا يوجد مختبر يحتوي على هذا القدر من التكامل والإنتظام كما هو متوفر في بنية الإنسان النموذجية .
في بنية الإنسان هذه يمكن التوصل إلى
اولاً :
تحديد ومعرفة كيفية الجريان والتحول التي تتم بين المادة والطاقة .
تحديد التفاعلات الكيميائية المرافقة . ولكن ؟
هل هذه الوحدة المتحققة في الإنسان خاصية من خصائص الإنسان .
فإذا علمنا بأن الجانب المادي في الدماغ موازي ومتداخل في تطوره مع الجانب الحيوي في هذا المجال ، الأمر الذي يحقق مستوى من الرقي هو الأعلى معرفياً حتى الآن . ولا زال السر في تنظيم أو إنتظام المادة في نظام متكامل غائباً بمجموعه عن معارفنا كبشر . وإذا أدركنا بأن .
مهارة المادة في تنظيم ذاتها وبهذا التنسيق المتكامل داخل الدماغ ، ومهارة الحيوية ورقيها إلى حد قدرتها على التفكير المجرد تتم في عملية وحدة بين المادة – الطاقة – الفكر في الإنسان ، مع تمتع كل عضو في جسم الإنسان بمهارات وحيوية فريدة من نوعها داخل الخلية الحية أو مجموعها . أمور تتطلب دراستها ليس من علم الطب فقط وإنما كل العلوم وبشكل موحد ، حيث ترك هذه الأمور للطب الجسدي أو النفسي يعد خطئاً فادحاً يتعين علينا تجنبه . أمور تشجعنا على الذهاب إلى أبعد من ذلك .
يرى أوجلان إن إتحاد الإنسان في تكامله البديع هذا مبدءاً . هو أمر أساسي لديه في نسق الحقيقة ، حيث الطاقة الكامنة في الوعي والإدراك الذي يشكل الخطوة الأولى نحو إمتلاك الإنسان للمعرفة . هو نسق لبلوغ ماهية الحقيقة .
بعض الفرضيات بشأن توضيح العلاقة , بين الحيوية -الجمود في الإنسان .
لا بد لنا من الإقرار بكفاءة الحيوية وكمالها في الإنسان أولاً كفرضية ، إذ لولاها لما تحقق ذاك الترتيب والإنتظام المادي للذرات في الإنسان مع إمتلاكها مجتمعة هذا المستوى الراقي من العواطف والاحاسيس والمشاعر .
كيف يمكن إذاً بلوغ مرتبة أقوى لنقر بكمون الحيوية الكاملة في المادة ؟
لأجل ذلك يرى أوجلان :
الإقرار بفرضية توفر ثنائية الدفع – الجذب ، في إصطلاح الحيوية الكامنة مع إعتماد هذا التفسير على أنه مبدأ معتمد في الكون بكامله ، فيما يتعلق بمبدأ الحيوية الكامنة في المادة .
يمكن إدخال قرينة الوجود – الفراغ ضمن هذا المصطلح أيضاً ، وهي قرينة كونية . حيث لا يمكن تصور وجود دون فراغ ، أو فراغ دون وجود فالتعمق بهذه المسألة سيقودنا إلى القول ، إلى زوال الإثنين معاً .
لفهم ذلك لا بد لنا من توضيح , بأن حصول الجذب والدفع ، يتطلب خاصية لا بد للموجة أن تحتوي عليها في كل حزمة شعاع . لأن تلك الخاصية الجسيمية في الحزمة الشعاعية ، هي العلة التي تفسر تلك السرعة القصوى التي يمكن تقديرها لشعاع الضوء .( ففي تجارب أجريت ، تبين أن مرور الالكترونات على مقربة من موجات الضوء المستقرة ، يؤدي الى اصطدامها بجسيمات الضوء فيظهر تغير السرعة على شكل تبادلٍ لحزم الطاقة بين الالكترونات والفوتونات وهو ما يبرهن ان الضوء يمكن ان يتصرف كجزيئة أو جسيم) .
إن وجود الثقب السوداء وقدرتها على إمتصاص حزم الضوء ؟ يثير سؤالاً ؟ ما هو الواقع الذي ينشأ بعدها للضوء ، هل يمكن تسميتها بجزر محضة للطاقة ( الطاقة المكثفة في الثقوب السوداء ) ، وما الذي يمكن أن تكون عليه تلك الطاقة المحضة المشبعة .
هل الكون قرين للثقب الأسود العملاق – المادة .
بعبارة أخرى هل المادة إنعكاس ظاهري لما هو ليس بمادة ، هل يمكننا إعتبار الكون في هذه الحالة كائن حي ذو ضخامة غير منظورة ؟ وهل الثنائيات جميعها تشخيص لهذه القرينة الكونية وشبه لها ؟
قدم العلماء براهين على أن المادة هي طاقة مدخرة ومعادلة أنشتاين القائلة بأن وزن الإنسان الميت لحظة وفاته ، تقل بمقدار ثمانية عشر غرامأ عن وزنه وهو حي ، هل يمكن إعتبار هذه المعادلة على أنها برهان على صحة العقيدة الروحانية ، في إدعائها بأن الكون مليء بالأرواح ، ألا يتطلب ذلك منا ، أن نأخذ مقولة هيغل الجدلية بأن الفكرة المطلقة ، أو العقل المطلق ، أو الطاقة الأنشتاينية المفارقة للجسد ، هي الروح الحيوية للمادة ؟ .
هذه الأسئلة المطروحة لا يجب أن تأخذنا بعيداً للأخذ بالشروح الميتافيزيقية وثنائياتها ، أو الأخذ بثنائيات الحداثة القائمة على التقسيم بين الروح – الجسد . فالتساؤلات التي تم طرحها تكفي للدلالة على وجوب زيادة الإمعان بالمواضيع التي نتناولها حول تلك الثنائيات ، وعلى إمكانية زيادة الفرص التي قد توفرها . بما فيها موضوع الحي – الحيوية . والمعجزات والأمور الخارقة للطبيعة . مقرونة بشرط زيادة قدراتنا على الملاحظة والمزيد من التأمل في الحياة ومدى غناها .
كل ذلك بهدف وجوب إدراكنا لمبدأ العدالة في الكون ، فالطبيعة في تكوينها وجوهرها أكثر عدالة مما يترائى لنا في المظاهر ، وكم سنكون محقين إن قلنا بأن المدنية مسؤولة ، عن فقداننا لجزء كبير من مهاراتنا في الملاحظة .
إنطلاقاً من كل ما تقدم يرى أوجلان ، بأن وجود الإنسان بحد ذاته في تطوره , هو عدالة بحد ذاتها ، وإنطلاقاً من هذا الحكم ، يمكننا إعتبار النظام الكوني ، العالم البيولوجي ، المؤسسات ، المنظمات الإجتماعية ، كلها مسخرة لخدمة الإنسان ، فهل من عدالة أعظم من ذلك ؟ . عكس ما نراه اليوم ، من تحريفات أصابت البشرية على يد الهرمية الدولتية في طمسها لهذه الحقائق ، والتي تستوجب على الإنسان البحث عن المسبب في تلك التحريفات .
قد تسهل مهمتنا هذه ، ذاك الإنتقال الحاصل بين عالم النبات والحيوان من خلال فهمنا لتلك الإنتقالات والتحولات المتبادلة بين الجزيئات والعناصر الحية ، وغير الحية , بدءاً من الطحالب في قدرتها على تحويل ما هو غير عضوي إلى عضوي ، من خلال إمتصاصها للطاقة , فمن الطحلب البدائي – إلى التكاثر اللامتناهي الذي يحقق للنبات صيرورته وديمومته ، يمكننا ملاحظة أن لعالم النبات أيضأ أسر وعائلات وأقارب . بل وحتى أعداء وأصدقاء . مع توفر ألية دفاعية خاصة بكل نوع . ولا يمكن إغفال خاصية التكاثر اللاجنسي والجنسي حيث تعد الأولى خاصية بدائية ، بينما تتميز الثانية بأنها الشائعة فالذكورة والأنوثة صفتان مكتسبتان من خلال التطور ، بحيث يمكن لحظ ، أن هذه الثنائية تعد من ضرورات التطور الطبيعي المتدرج أو الجدلية الإيجابية لهذا التطور ، مما يوحي بأن مبدأ المثلية في البحث عن الحقيقة يفتقر إلى عنصر الكفاءة في تفسير الكون .
ما هي غاية الكون من التطور ؟ أليس التطور الملحوظ في كل جوانبه ، دليل على حيوية هذا الكون ؟ هل يمكن لأي شيء أن يتطور وهو يفتقر إلى عنصري الحيوية والكفاءة . إن غياب وجود عالم أخر أو كوكب غني بالحياة لا يعني أنه غير موجود . لأننا لم نستطع تحديد أجزاء بسيطة من هذا الكون والتعرف عليه ، ولا يمكن الإستسلام إلى مقولة ، معرفة الإنسان لكل شيء . وربما يكون لفكرة العوالم المتوازية جوانب تنير الفكر في هذا المجال ، ولا يمكن الإستسلام لتلك الأراء التي تقول بأن العالم موجود بقدر تفكيرنا .
عالم الحيوان :
هو عالم قائم بحد ذاته ، لكنه يتطلب في وجوده لعالم آخر ، هو العالم النباتي ، الذي لا يمكن تصور وجود حيواني دون وجود العالم النباتي . فوجود عالم نباتي متطور ، متجاوز لنفسه في حالته البدائية كما الطحالب إلى عالم نباتي أكثر تطورأ وأكثر أنواعاً ، شرط لوجود حيوانات متطورة . هذا الحيوان لا بد له من التطور لكافة أعضائه كي يستجيب ويتعامل مع تلك الكثرة المتطورة في عالم النبات . كالبصر والسمع والألم والمشاعر . وما إنشغال الحيوان بالبحث المستمر عن الغذاء ، إلا تعويض عن طاقة مفقودة ، فحين يزول الجوع تكون الطاقة قد تم تخزينها في الجسم .
أما الحاجة الجنسية فهي تعبر عن وظيفة غايتها إستمرار الحياة ، وكذلك الخوف من الموت ، أو أنه يتأبط الموت في أحشائه جزئياً , حيث بعض من الحيوان يموت ، بعد التزاوج . لكن من جهة أخرى ، كلما تحول الجنس إلى إحياء لعواطف المحبة والود ، كلما إقتربت الحياة من الخلود والإستمرارية . إن إعتبار اللذة المصاحبة للجنس عشقاً كما هي العادة في إشباع المعاني المزيفة على المصطلحات في عصر الحداثة , إن هي إلا إنكار للعشق ذاته ، في حين أن العشق هو اللحن المحسوس من لغة الكون فالعشق الحقيقي هو سمو في تجاوز الروح للغرائز بوحدة الروح في الجسد ، في حين تكون زوال للحرية وثبوت للمادة إن بقيت غير مفارقة للغرائز .
يتبع ……