مقالات

الأزمة السورية بين الثورة والارتزاق

الحرية لا يصنعها إلا الأحرار، مقولة صحيحة عبر التاريخ، بدأت من ثورة سبارتاكوس، حينما انتفض العبيد لنيل حريتهم، وهي مستمرة حتى الآن وعبر التاريخ، ورغم إنها خطوة متقدمة في تاريخ البشرية، إلا أن إحدى أسباب فشل تلك الثورة ربما يكمن في القيود التي كانت تكبل العبيد في عقليتهم وتفكيرهم في ذلك الوقت.

وهي تظل صحيحة اليوم أيضاً، فأي ثورة لا يقودها الأحرار سيكون مصيرها الفشل مهما حققت انتصارات ميدانية وأنية مؤقتة، ومن أجل تحقيق الانتصار الحقيقي لا بد من خلق ثورة ذهنية وفكرية في المجتمع، ومن أجل خلق ذلك المجتمع الحر لا بد أولاً من خلق الفرد الحر الذي يملك الإرادة والقرار دون تردد.

الشعب السوري طالب بالحُرية والكرامة ضد النظام الحاكم وخرج إلى الأزقة والطرقات والساحات وصرخ بأعلى صوته مطالبا بالحُرية والكرامة، وانضمت شرائح واسعة إلى الحراك الشعبي والجماهيري، وامتدت ساحات التظاهرات من الجنوب البلاد إلى شماله ومن شرق سوريا إلى غربها، كان الاعتقاد هو إن التظاهرات والصرخات والشعارات قادرة على قلب الموازين وتحقيق كل الطموحات، لم يكن هناك قيادة موحدة وحقيقة قادرة على رسم المستقبل.

وحاول المتسلقين والذين كانوا في يوم ما أزلام النظام، إعلان انفسهم كقادة لهذا الحراك الجماهيري، وكانت النتائج كارثية، وما نتج في مناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام، ما هو أسوء وأفظع من ممارسات النظام نفسه.

وظهرت داعش والقاعدة وحركات إسلامية متطرفة تمارس الإرهاب والقتل باسم الثورة، واغتصبت تلك الحركات المتطرفة الثورة وجعلتها في خدمة أجندات خارجية، ورويداً رويداً انكشف من سَموا أنفسهم بالثوار ليتحولوا في النهاية إلى مجرد مرتزقة لدى دول إقليمية.

ولذلك كان لا بدأ من ثورة أخرى من أجل أحداث تغير حقيقي في كل الساحات والميادين، وهكذا ولدت ثورة روجافا من رحم معاناة المكونات السورية من الكرد والعرب والسريان وغيرهم من المكونات، يقودها أحرار، يملكون القرار والإرادة، لهم خط واضح من أجل التغير والثورة بالاعتماد على القوى الحقيقية لهذه الثورة، ورغم إنهم بدأوا من الشمال ولكنهم حملوا مشروعاً متكاملاً لكل سوريا.

الثورة تسعى لتحقيق التغير نحو الأفضل، والثورة هي حراك جماهيري يقودها ناس يؤمنون بالتغير، ناس اختاروا التضحية بمصالحهم الشخصية في سبيل تحقيق طموحات الجماهير في الكرامة والحرية، لكن في الثورة السورية التي حاول البعض استغلالها، وركبوا امواجها لتحقيق مصالحهم الشخصية، وجعلوا من أنفسهم ممثلين وناطقين باسم الثورة، ليتحولوا في النهاية إلى مجرد مرتزقة لدى النظام التركي.

في الثورة السورية ظهرت حركات وفصائل امتهنت الارتزاق وعملت جاهدة لأقناع الناس أن الثورية تعني خدمة دولة اقليمية التي هي تركيا، والحقيقة أن النظام التركي كان سبباً في الانحرافات التي حدثت وحولت الحالة الثورية الجماهيرية إلى عمل مسلح يخدم مصالحه فقط.

 نحن هنا لا نبرأ النظام السوري، فهو نظام دكتاتوري لم يقترب من الحل ومارس القتل والإرهاب ضد الجماهير، لكن الدور التركي التخريبي في الأزمة السورية كان دوراً مكملاً ومساعداً للنظام.

انشأت تركيا عشرات المجموعات المسلحة في سوريا، وأدخلت عبر أراضيها حسب التقارير الاستخباراتية بحدود 40 ألف مسلح إرهابي إلى سوريا، وهي التي دعمت داعش والنصرة وكل الجماعات المتطرفة والإرهابية، وهي التي طلبت من تلك المجموعات التحرك حسب الطلب التركي، وتوجيه سلاحها إلى السوريين.

أصحبت مهمة تلك المجموعات محاربة تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وتركت النظام، كل ذلك بأوامر من أردوغان مباشرة، والذي قدم بدوره تنازلات كبيرة لروسيا داعمة النظام، وهكذا تم تسليم حلب والغوطة وارياف دمشق ودرعا وحمص وجميع المناطق على حساب الدماء السورية.

واصبحت المفاوضات والمحادثات بين الجانب الروسي والتركي والمسمى بالمعارضة والتي بقيت شكلية كالدمى التي تتحرك بأنامل تركية لا بل اصبحوا التلامذة المطيعين المنفذين للأوامر التركية دون الالتفاف أو النظر إلى الطبيعة والجغرافية السورية.

سورية الغنية بثقافاتها ومكوناتها وشعوبها ولغاتها، ونخص بالذكر هنا بالتضحيات التي قدمها الشعب الكردي للحفاظ على وحدة سوريا عبر التاريخ في خمسينيات القرن الماضي ابان الاستقلال والذي كان له الدور الريادي والذين قادوا سوريا على مر عقود ، تضحيات اليوم ايضاً هي أمام الاعين، ولكن سوريا اليوم تتقطع أمام أنظارهم وتحتل روج افا وشمال سوريا وتتحول إلى ولايات تركية ترفرف فيها العلم التركي وتدرس اللغة التركية ويتم فيها التغير الديمغرافي، وهم بدل ان يقاوموا المحتل اصبحوا أدوات رخيصة بيديه يمارسون القتل والنهب والسلب باسم الثورة.

والانكى من ذلك أن بعض الكرد الذين انضموا لهؤلاء تحت مسمى الثورة والذين ليس لهم لا ناقة فيها ولا جمل في ذاك الصراع الطائفي والاثني والمذهبي والذين  تحولوا إلى مجرد أدوات يخدمون سياسات معادية لتطلعات المكونات،  ويخدعون انفسهم بشعارات شكلية وغير جوهرية وخالية من حقيقة الثوار والثورة، وأصبحوا أداة تنفيذ تابعين لجهات هي بالأصل تابعة وتمارس الارتزاق، وتسلكُ طرق وافكار لا تنتمي لثقافاتنا ولا تواكب العصر والحضارة إنما تعود إلى آلاف السنين. وانكروا هويتهم وحقيقة شعبهم الذي يتعرض اليوم لأبشع الجرائم والمذابح والمجازر وعمليات التهجير القسرية والتغير الديمغرافي.

عذراً أصبحوا لا يمثلون إرادتهم ويتوهمون بأنهم سياسيين ويحاولون سلك أسهل الطرق لنيل الحقوق دون العناء، ويتناسون بأن كسب الحقوق وتحقيق الحرية والعيش بكرامة تحتاج إلى جهد كثيف وعناء ونضال مستمر وتقديم التضحيات وقراءة حقيقية للسياسة والواقع وربط التاريخ بالحاضر ليستنتجوا ويرسموا للمستقبل، وكل ذلك يحتاج إلى تقوية الجبهة الداخلية والعمل بين صفوف الجماهير والشعب لتحقيق الوحدة والعمل من أجل خطوة عظيمة نحو الاندماج، وهنا اذكر مقولة القائد آبو عندما قال ليكن المجتمع حر: “ستجوعون وستصبحون فقراء وستقدمون التضحيات ولكن ستصبحون أقوياء وستنتصرون”.

هكذا تكونون احراراً وتستطيعون تحقيق الحرية كما ثورة روج افا التي استطاعت إنجاز الكثير من المكاسب في ظل صراعات إقليمية ودولية صعبة للغاية حتى بات قراءة الواقع صعباً على الكثيرين واستطاعت أن تدخل في ميادين السياسة العالمية والتواصل مع كافة القوى العالمية، واصبحت رقماً صعباً في المعادلة الدولية وبات يحُسب لها الف حِساب.

هنا يستطيع أولئك الذين اخطأوا في تحديد مسار بوصلتهم وركبوا سفينة غيرهم وباتوا يشرعون بمجاذيف مختلفة لا تؤدي بهم إلى شاطئ الأمان وتسير بهم الرياح بما لا تشتهي السفن، يستطيعوا أن يعودوا إلى صفوف ثورتهم الحقيقة والتي تمثل جوهر قضيتهم وخاصة في زمن عصر الحضارات الديمقراطية وعصر الشعوب التواقة للحرية والذي اثبت جدارته في هذا الزمن، وفي وقت باتت شعوب العالم تتضامن مع ثورتنا و قضيتنا باعتبارها قضية ثورة يقودها الأحرار.

زر الذهاب إلى الأعلى