مقالات

إيران وأزمة الدولة القومية

سليمان عرب

تاريخ إيران والثقل الحضاري والتنوع الثقافي:

تُعْتَبَرُ روج هلات كردستان وإيران من المناطق الغنية ثقافياً، حيث تشكل خليطاً من القوميات واللغات والأديان والمعتقدات؛ مما يكسبها تنوعاً ومخزوناً ثقافياً وإرثاً حضارياً غنياً نابعاً من أعماق تاريخها العريق. فعلى أرضها قامت الثورة الزراعية وبناء القرية والاستقرار؛ وعليها فكّر الإنسان وطوّر اللغات، وصنع الخبز وعرف المعدن، وعاش فيها زرادشت، وكتب تعاليمه التي قدَّس فيها الطبيعة التكوينية (الماء والهواء والتراب والنار)، كما شهدت جغرافيتها والتي يطلق عليها إيران الحالية؛ العديد من التغيرات والثورات، وتشكيل الفيدراليات والامبراطوريات عبر تاريخها، وتتالت الشعوب في إدارتها، وأبدت مرونة عالية في التغيير والتحوُّل حسب الضرورة والحاجة المجتمعية للحفاظ على القيم الإنسانية، فهذه الأرضية الخصبة من تنوعِ وتراكمِ وتكاثفِ الثقافات لا يمكنها أن تقبل العيش دون نظامٍ ديمقراطيٍّ عادلٍ يستند على حقيقتها التاريخية، ويرسم ألوانها الزاهية حسب مبادئ العيش المشترك والأخوة بين شعوبها النابعة من إرثها وتراثها الحضاري العريق، وهي بطبيعتها وعبر تاريخها تقاوم الأنظمة الدولتية والسلطوية، وتعارض كافة أشكال التفرقة والتعصب، وتبحث عن حقيقة الحياة المجتمعية الحرَّة التي افتقدتها منذ بروز السلطات القومية الدينية الأحادية المنغلقة المهيمنة.

فأزمة الدولة القومية والدينية، وعدم استطاعتها تحقيق مطالب الشعوب؛ قد برزت بشكلٍ جليٍّ وواضحٍ من خلال الأحداث الأخيرة وأن انتفاضة الشعوب ضد النظام الإيراني؛ يؤكد على الأزمة البنيوية في الدولة القومية والدينية، وعدم قدرتها على تأمين متطلبات الشعب، وعدم استطاعتها التخلص من سياساتها وذهنيتها الشوفينية والاستبدادية والشمولية والدكتاتورية، وهنا ينبغي التنويه إلى أن الدين في إيران لا يقف أمام الثورة كما يظن البعض مقارنة مع دول إقليمية أخرى، فلا يوجد ذلك التأثير الكبير للدين على المجتمع الإيراني، وذلك نسبةً لدرجة ثقافته ووعيه وإرثه الحضاري، إنما العادات والطقوس والقوانين المفروضة عليه من قبل الأنظمة المتسلطة؛ هي التي تعكس الصورة للخارج، وتُظِهر الوجه المستحدثَ للمجتمعِ الإيرانيِّ بذلك الشكل المتدينِ والمتخلف، فغالبية الشعوب الإيرانية شيعية المذهب، ويبلغ حوالي 80 % من الشعب، وهو منفتحٌ في طريقة التفكير، ويقبل بالتغيير، ويبدي مرونه كبيرة بالنسبة للتحولات الفكرية عكس الأفكار القالبية والسقفية والتطرف، وذلك  نظراً  للسياق التاريخي الإسلامي الذي  يظهر المذهب الشيعي كمقاومٍ ومعارضٍ للمذهب السنيِّ بعد انتشار الإسلام وبلوغه السلطة والهيمنة، وعلى النقيض من ذلك، ففي إيران المذهب الشيعي هو الحاكم، والمعارض هو المذهب السني، وهو من يحافظ على القيم وجوهر الإسلام ضد ممارسات النظام وسياساته، وبحكم أن المذهب الشيعي هو طابع النظام الحاكم؛ فإن احتمال التغيير في النظام ليس بالأمر المستبعد؛ اعتماداً على المرونة الشيعية والانفتاح الفكري في هذا المذهب. على الرغم من أن الأنظمة والسلطات الدولتية ليس لها مذهب أو دين، ولكن الأوساط الشعبية والثقافية والدينية المقاومة للذهنيات التسلطية؛ التي تشكل المجتمع الإيراني يمكنها أن تكون قاعدةً ومنطلقاً لإحداث التغيير الديمقراطي الحقيقي ضمن مكونات المجتمع الإيراني.

الثورة الشعبية والانتفاضة العارمة أسبابها وحقيقتها:

مهما حاول النظام الإيراني أن يربط بين المظاهرات المنتشرة في عموم البلاد وبعض القوى الخارجية، فإنها بالتأكيد تعود لأسباب داخلية؛ وهي ليست اقتصادية فحسب بل لأسباب سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى، ودعوات مطالبة بالتغيير في بنية النظام الحاكم وهيكليته السلطوية، وضد السياسات الخارجية المتَّبعة من قبل الدولة، وخاصة التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط، وتجنيد شبابها للقتال بحجة مواجهة المشروع الغربي، وصرفها لمليارات الدولارات على حساب الشعوب الإيرانية في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

لقد فشلت السلطة الدينية الإيرانية في سياستها عبر إبقاء الحرب خارج حدودها، والتركيز على خطوط الدفاع في كلٍّ من سوريا ولبنان واليمن والعراق والخليج، ولم تُدْرِك أن السياسة الداخلية هي من تصنع السياسة الخارجية، فتركها للشعوب الإيرانية دون حلٍّ لقضاياها القومية والثقافية، ودون دستور عادل ونظامٍ مؤسساتيٍّ ديمقراطيٍّ يَحُول دون تفكك المجتمع الإيراني، كما أبقت غالبية الشعوب دون خط الفقر، ولم تُبدي أي اهتمامٍ للخدمات وتحسين الأوضاع المعيشية، ودخل الفرد في الداخل الإيراني. وأرسلت الآلاف من الشباب الإيراني إلى خطوط الدفاع الأمامية في الخارج، ليرجعوا جثثاً هامدة، دون الاعتماد على مشروع حقيقي يستطيع حل مشاكل المنطقة، ويخاطب وجدان وضمير الشعوب لتحقيق حياة حرة وكريمة في عموم المنطقة، لذلك فشلت سياستها التسلطية؛ لأنها لم تستند فيها إلى المخزون الثقافيِّ والفنيِّ والحضاريِّ والتاريخيِّ للمجتمعِ الإيرانيّ في مواجهةِ الغرب والحداثة الرأسمالية، ولكنها على النقيض من ذلك؛ مارست سياسة الإنكار والتنكيل والقمع والاستبداد بحق مكونات المجتمع الإيراني للحفاظ على السلطة، والادعاء بأنها تعادي مشاريع خارجية، وأنها صاحبة مشروعٍ للشرق الأوسط ولها الشرعية، ولابدَّ من وجودها؛ حيث اعتقد نظام الملالي إنه يستطيع من خلاله إقناع الشعوب الإيرانية بأنه يقاوم الغرب والحداثة الرأسمالية ويواجه مشاريعها، فلم ينتصر في الجبهة الخارجية، وثارت عليه الجبهة الداخلية أيضاً.

وبالنسبة للقوى الخارجية:

فكما هو واضحٌ من خلال سير الأحداث في السنوات السابقة؛ فإن السياسة الأمريكية الاستراتيجية تعمل في مواجهة التمدد الإيراني الشيعي في الشرق الأوسط، ويَظهر ذلك من خلال تصريحات رأس الهرم الأمريكي المتكررة بشأن المظاهرات والانتفاضة الشعوبية المندلعة في إيران، ووصلت إلى حد الوعود بدعم المتظاهرين والقوى المعارضة أمام الإعلام، وكأن أمريكا تريد نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، فهل ستتدخل أمريكا؟ وإذا تدخلت فأي القوى ستعتمدها على الأرض؟ وهل سيكون هناك تغييرٌ ديمقراطي؟ أم ستتحول المظاهرات إلى مواجهاتٍ مسلحة بين السلطة المستبدة والمعارضة كما حدثت في سوريا؟ وكما هو واضح إنه لا فرق بين النظام في دمشق والآخر في طهران؛ حتى قبل ثورات الشعوب. من جانب آخر تظهر بعض القوى الأخرى التي أبدت مساندتها ودعمها للنظام وبشكل واضح؛ فرنسا والصين وروسيا، وهذا يدل على تشعب وعمق السياسة الإيرانية ومدى أهميتها في المنطقة، وبالنسبة للجارة العراق؛ فهل نجحت أمريكا في الفصل بين قُمْ وكربلاء، ولماذا لم تبدي موقفها كما تركيا؟ أم إنها تفضل الحياد؟، كما أن تركيا حليفتها ضد الكرد محتارة، وتراقب الأحداث بتخوف لأنها تعلم جيداً الآثار المترتبة على تغيير الوضع عند جارتها وشريكتها الإقليمية؛ لذلك تساند النظام الإيراني، ولا شك أنها ستدعمه في مواجهة ثورة وانتفاضة الشعب.

الشعب الكردي في إيران (روج هلات) لا بدّ له من أن يتحرك بتأنٍ، وقراءة الأحداث بعمق؛ وحسب البراديغما الجديدة وفلسفة الأمة الديمقراطية، وأن يخطو الخطوات المناسبة في حينها ومكانها، والاستفادة من تجاربهم التاريخية من ثورة عبيد الله النهري عام 1878م وسمكو شكاكي عام 1920م وجمهورية مهاباد وقاضي محمد عام 1946م, وصولاً إلى ممارسات الملالي ضد الكرد والإعدامات والانكار وإخفاء الهوية، لذلك على الشعب الكردي أن يعلم أن هذه المرحلة ستكون فرصة عظيمة من أجل أن يكون في طليعة الشعوب الإيرانية، كما يجب التحضير والاستعداد، وذلك إن روج هلات (كردستان إيران)؛ تمتلك أرضية شعبية وجماهيرية كبيرة وواسعة نِتاجَ نضالِ حركةِ الحريةِ خلال الفترات الماضية، وعليها تنظيم المعارضة الإيرانية على أسس ومبادئ الأمة الديمقراطية، وكذلك القوى الكردية بما يضمن الوحدة الكردية، وعقد اجتماع تشاوري يكون خطوة باتجاه المؤتمر الوطني الكردستاني، أي أنها تستطيع الاستفادة من تجربة (روج آفاي كردستان وشمال سوريا) في الاعتماد على الخط الثالث والسياسة الديمقراطية، والاعتماد على المجتمع والشعب وتنظيمه، وإعادة الثقة إليه، والإيمان بإرادة الشعوب في تحقيق التغيير الديمقراطي، وبناءِ الحياة الحرَّة الكريمة، وليس من خلال قوى خارجية تدعي الديمقراطية، وضرورة القضاء على التعصبات الدينية والقومية التي زرعتها الأنظمة الفاشية والدكتاتورية خلال عشرات السنين، وعملت على تمزيق النسيج الاجتماعي والتعايش عبر زراعة الفتن والتفرقة، وهذا حال كافة الأنظمة السلطوية في الدول القوموية الدينية التي انتهت صلاحياتها، ولم تعد تستطيع الاستمرار تحت ضربات الثورات الشعبية المطالبة بالتغيير من أجل الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، فالحل ينبغي أن يكون مماثلاً لنموذج فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية، وبناء الإدارات الذاتية الديمقراطية، وترسيخ المفاهيم الديمقراطية في التعايش المشترك وإخوَّة الشعوب؛ وصولاً إلى شرق أوسط كونفدرالي ديمقراطي.

زر الذهاب إلى الأعلى