ثقافة

أضواء على أعلام الكُرد

تستفيض كتب التاريخ بأسماء القادة والثوار البارزين والأعلام من الكرد دون أن يعرف أكثرنا جزءً بسيطاً عن منشئِهم ومولدهم والأعمال والبطولات التي قاموا بها على مر التاريخ الحديث، ومن هذا المنطلق أردنا نحن في جريدة الاتحاد الديمقراطي أن نسلط الأضواء على هؤلاء القادة الكرد الذين وبحق يجب علينا أن نسميهم أعلام الكرد لأنهم حقيقة كانوا كالجبال الشامخة رغم سياسات التذويب والطمس والانصهار والانحلال، واليوم أردنا أن نُعَرِّف بأحد القادة الذين تركوا لنا في التاريخ بَصمَةً فكانت كالشعلة لم تطفئها الرياح العاتية.

محمود الحفيد؛ ويدعى أحياناً محمود حفيد زادة البرزنجي: هو محمود بن الشيخ سعيد كاكا أحمد بن الشيخ معروف البرزنجي وُلد في السليمانية 1881م محلة (كاني اسكان)، ولقبّ بالحفيد نسبة إلى جده العالم الكبير الشّيخ كاكة أحمد الشيخ ((دفين السّليمانية وصاحب المرقد المشهور فيها)).. 

درس علوم الشريعة والفقه والتفسير والمبادئ الصوفية على يد علماء السليمانية واتقن العربية والفارسية والتركية إلى جانب اللغة الكردية، ولَمَّا كان ذو نفوذ روحي ودنيوي؛ (كان يمثل أحد أقطاب الطريقة القادرية) لذا كان وجيهاً من وجهاء الكرد الذين عاشوا في العراق (الجزء الجنوبي”باشور” من كردستان الذي ألحق بشمال العراق بإجراء تعسفي وباتفاقيات دولية ظالمة، وكان مركز السياسية والمعرفة في بلدته السليمانية؛ وذهب مراراً إلى الأستانة برفقة والده ونجا بأعجوبة من الموت حين دُبِّرَت مؤامرة في الموصل لاغتيال أبيه ومن معه.

ثم اغتيل والده الشيخ سعيد غدراً في مدينة الموصل مع ولده أحمد عام 1909م وألقي القبض على الشيخ محمود ووضع في سجن الموصل بتحريض من قادة الاتحاديين الأتراك، وقد أثار اعتقاله غضب جماهير السليمانية الذين ثاروا ضد السلطات العثمانية الحاكمة آنذاك فاضطرت الحكومة التركية إلى إطلاق سراحه عام1910م فعاد إلى السليمانية وحل محل والده زعيماً لها.

قاد كتائب الفرسان الكردية المؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل إلى “الشعيبة” بلواء البصرة في جنوبي العراق لمحاربة القوات الانجليزية (البريطانية) عام 1914 م.

ولما تمكن منه الجيوش البريطانية؛ عاد محمود الحفيد مجروحاً إلى السليمانية، فأنبئ بأن القوات الروسية القيصرية زحفت نحو الجزء الكردستاني المُلحق بإيران (روجهلات)، وسلبت الأموال، واحتلت المدن والقُرى، وهتكت الأعراض، وقتلت الكبار والصغار، فثارت غيرته؛ وجمع قوات العشائر الكردية، ثم اتجه لمحاربة قوات روسيا القيصرية التي غزت المناطق الكردية في إيران وحارب الروس حرب عصابات في مناطق “هاورامان ـ بنجوين ـ مريوان” واستمر في مقاتلتهم طوال سنتي  1915ـ 1916 م ” وفتك بالقوات الروسية، ولما نخر الضعف في جسم الدولة العثمانية، وكانت الدولة الانجليزية قد احتلت “بغداد”، وهي تتقدم نحو ولاية “شهرزور” القديمة أو (ولاية الموصل)، وكانت قد عسكرت في منطقة “جلولاء”، أعلن الشيخ محمود استقلال كردستان، ونصب نفسه ملكاً عليها قام 1919 م، ولقب نفسه “ملك كردستان” فأراد “علي إحسان باشا” قائد القوات العثمانية ووالي ولاية الموصل الاعتراف بحكومته، لكي يبقى بجانب الدولة العثمانية، وأوفدت الدولة الانجليزية إليه وفداً يدعوه للانحياز إلى جانب الدولة الانجليزية، ولكنه رفض قبول دخول القوات الانجليزية إلى المناطق الجبلية من كردستان. فسيرت الدولة الانجليزية (بريطانيا) فيالق مجهزة بالطائرات والمدرعات لمحاربته، فَجَرَت معارك دموية بين قوات العشائر الكردية وبين الجيش البريطاني الذي أصيب بخسائر فادحة في الأرواح والأموال في “دربند بازيان” واستطاعت بريطانيا شراء ذمم بعض زعماء العشائر الذين كانوا معه فخسر الشيخ محمود الحفيد المعركة؛ وحكم عليه الإنكليز بالإعدام ثم استبدل الحكم بالنفي إلى الهند. وبعد سنتين تقريباً، اضطر الإنكليز لإعادته إلى السليمانية مرة أخرى بسبب الاضطرابات السياسية التي أعقبت نفيه واستمر يتمتع بنفوذ حكم ذاتي في بعض مناطق شمال العراق حتى عام 1936م، حين أعاد البريطانيون توحيد المملكة العراقية. ولقد حاول الأتراك الاعتماد عليه في مواجهة النفوذ البريطاني في أطراف كركوك، والتي احتلتها البريطانيون عام 1918، حيث بدأ بأعمال قتالية ضد بريطانيا بعد توقيع تركيا معاهدة الهدنة في عام 1918 وذلك في نهاية الحرب العالمية الأولى.

وفي عام 1918 تولى الشيخ محمود مسؤولية لواء السليمانية بدلاً من الأتراك بعد الانسحاب.

بعد اتفاق حصل بين محمود الحفيد مع البريطانيين سلّمهم السليمانية فاستثمر البريطانيون هذا التجاوب وقاموا بتعيينه قائداً على السليمانية، وبعد فترة ونتيجة لعدم تلبية مطالبه ثار على البريطانيين واستعاد السليمانية في 12 مايو/أيار 1924.

ثم ألقي القبض عليه من قبل الانكليز في 24 نيسان/أبريل 1931 ونفي إلى مدينة عنة في الرمادي، وظل في ضيافة الشيخ عبد الغفور الراوي لمدة ثلاث أشهر ثم رجع إلى كردستان.

محطات عسكرية

تعتبر العمليات المسلحة التي قام بها الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية عام 1919عشية قيام الدولة العراقية أوائل العشرينيات من القرن الماضي والتي استمرت حتى عام 1931 محطة مهمة في تاريخ العمل العسكري الكردي.

لم يرض البرزنجي بما حصل عليه من بريطانيا واعتبره غير كاف، فقد كان يتطلع إلى حكم المزيد من المناطق الكردية،  فقرر مواجهة بريطانيا بعد أن أعلن أنها تنصلت من وعودها له.

 بدأ البرزنجي يتصل بالحركات المناوئة للنفوذ البريطاني في العراق لا سيما في منطقة شرناخ الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من الأناضول على الحدود السورية العراقية، مما دفع البريطانيون إلى التفكير في التخلص منه، واستقر رأيهم على تعيين الميجور سون حاكماً سياسياً للسليمانية في مارس/آذار عام 1919 لتقليص نفوذه، فاختار البرزنجي العمل العسكري المباشر للرد على الخطوة البريطانية تلك، فقام بانقلاب عسكري في السليمانية مستعيناً بفرقة عسكرية كردية تسمى “الشبانة” وساندته في ذلك القبائل الكردية في إيران وخاصة قبيلتي الهورامان ومريوان، وقد حقق الشيخ البرزنجي في البداية انتصاراً عسكرياً واستطاع أن يعتقل الضباط البريطانيين في بيوتهم وتولى هو وفرقة الشبانة السلطة المطلقة وقطع الخطوط السلكية في كركوك واستولى على قافلة تحمل أسلحة وأموالاً كانت متجهة إلى “كفري” في السليمانية واستولى كذلك على حلبجة في 26 مايو/أيار عام 1919.

إزاء هذه الأعمال المسلحة في المناطق الكردية سيَّرت بريطانيا حملة عسكرية كبيرة في يونيو/تموز عام 1919 أحاطت بالبرزنجي وفرقته وحاصرته وتمكنت من أسره بعد إصابته بجراح أثناء الحصار، وأسرت معه العديد من أتباعه، وأرسلتهم جميعاً إلى بغداد وسيطرت القوة البريطانية على السليمانية بشكل كامل؛ وأصدرت حكماً بالإعدام على الشيخ البرزنجي ثم خففه بعد ذلك القائد البريطاني في بغداد إلى عشر سنوات مع النفي إلى الهند.

 الوعد بحكم ذاتي كردي

بالرغم من القضاء على الحركة الكردية فإن الحاكم البريطاني العام في العراق عزم على منح الكرد وضعاً خاصاً يتيح لهم حكماً ذاتياً ليتجنب عودة الاضطراب إلى المناطق الكردية مرة أخرى، وجاء هذا العزم البريطاني حتى قبل أن يستكمل البريطانيون تنظيم استفتاء عام بين أفراد الشعب العراقي على حكومة مركزية وطنية يرأسها الملك فيصل بن الحسين، واستند الحاكم العام البريطاني على نص المادة السادسة عشرة من لائحة الانتداب البريطاني على العراق التي جاء فيها “إنه لا يوجد في هذا الانتداب ما يمنع من تأسيس حكومة مستقلة إدارياً في المقاطعات الكردية”.

لكن خطوات تنفيذ الحكم الذاتي المستقل إدارياً على الأرض لم تتم بالسرعة التي كان يتوقعها الكرد، وحل موعد استفتاء الشعب العراقي عام 1921 على أمر تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق فرفض الكرد في السليمانية الاشتراك في هذا الاستفتاء وأعلن الشيخ قادر شقيق الشيخ محمود الحفيد المنفي في الهند مطالبته بحكم ذاتي مستقل ورفض فكرة الانضمام إلى العراق.

 عودة البرزنجي

كانت تركيا تراقب الأوضاع بين الكرد والحكومة العراقية والقوات البريطانية عن كثب وأرادت أن تستغل الغضب الكردي للضغط على بريطانيا من أجل حل مشكلة الموصل المتنازع عليها بينها وبين بريطانيا فحشدت قواتها عاقدة العزم على الدخول في مواجهة مسلحة مع قوات الشيخ قادر، وقد نجح الأتراك بالفعل في احتلال بعض المدن الكردية مثل كوي سنجق وهددوا مدينة عقرة واندفعوا في اتجاه العمادية.

 هنا فكرت بريطانيا في الاستعانة بعدو تركيا اللدود الشيخ البرزنجي ليقف أمام المد التركي الجديد، فأعادته من منفاه في الهند إلى السليمانية مرة أخرى عام 1922 وعينته رئيساً للمجلس المحلي المنتخب ثم حاكماً عاماً، وبدأ الشيخ البرزنجي ينظم قواته ويوسع نفوذه في لواء السليمانية ويتجه صوب كركوك محاولاً ضمها إلى حكومته، ولم يكن هدف بريطانيا وقف المد التركي فقط بل أرادت أيضاً أن تضغط على حكومة الملك فيصل لكي توقع على المعاهدة “العراقية البريطانية الأولى” والتي وقعتها بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول عام 1922.

 في تلك الأثناء بدأ الشيخ البرزنجي يستشعر أن بريطانيا في طريقها للاستغناء عنه، ولم تعد بحاجة إليه، فبادر بإعلان نَفسِهِ ملكاً على كردستان في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1922

وعلى إثر خلو معاهدة لوزان في يوليو/تموز 1923 من أية إشارة لمنح الكرد حق تقرير المصير الواردة في معاهدة سيفر وفي محاولة من بريطانيا لطمأنة هواجس الكرد أوعزت إلى الحكومة العراقية لإصدار بيان تعترف فيه بحق الكرد القاطنين ضمن حدود العراق في تأسيس حكومة كردية؛ غير أن الكرد رأوا أن بريطانيا غير جادة في طلبها هذا وغير جادة كذلك في ضغطها على الحكومة العراقية بل إن الحكومة العراقية كانت غير جادة في منح الكرد حكماً ذاتياً في مناطقهم فلم يهتموا بالبيان الذي صدر في هذا الصدد، ورتبوا أنفسهم على العودة مرة أخرى إلى العمل المسلح.

الخذلان البريطاني واعتماد مبدأ حرب العصابات ضد حكومة بغداد

في ذلك الوقت سيرت الحكومة المركزية في بغداد حشداً عسكرياً للقضاء على حكم البرزنجي، وتمكن الجيش العراقي بالفعل من احتلال السليمانية في 19 يوليو/تموز عام 1924 بيد أن البرزنجي أجبره على التخلي عن المدينة فأعادت حكومة العراق المحاولة مرة أخرى وبعثت إليه جيشاً استطاع هذه المرة أن يقضي على نفوذ البرزنجي في السليمانية فلجأ إلى الجبال ليقوم بشن حرب عصابات على هذه الحكومة، وعلى المستوى السياسي عينت الحكومة العراقية أحد الكرد الموالين لها متصرفاً للواء السليمانية يتلقى أوامره من الحكومة المركزية في بغداد فاستتب له الأمن إلى حين.

 واستمر البرزنجي في عمله المسلح ضد الحكومة العراقية حتى أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1926 حينما عقد اتفاقاً معها يقضي بأن يغادر هو وأسرته العراق إلى إيران وأن يمتنع عن التدخل في الشؤون السياسية مقابل رد أملاكه إليه.

 بقي البرزنجي أربعة أعوام في إيران إلى أن حل صيف عام 1930 الذي نظمت فيه الحكومة العراقية انتخابات في المناطق الكردية رفضها الكرد فوقعت اشتباكات مسلحة بين المتظاهرين وقوات من الشرطة العراقية راح فيها أكثر من 45 كردياً وجرح حوالي 200 آخرين، فرأى البرزنجي أن الأجواء السياسية والأمنية باتت مهيأة لعودته من إيران وقيادته للعمل المسلح من جديد.

وصل البرزنجي إلى السليمانية وأعلن عن مجموعة من المطالب ليعود الهدوء مرة أخرى إلى السليمانية. من هذه المطالب ترك الحكومة العراقية جميع مناطق كردستان ما بين خانقين وزاخو، وتولّي حكومة كردية تكون تابعة للانتداب البريطاني إدارة شؤون هذه المناطق ريثما تصدر عصبة الأمم قرارها الأخير في شأن الاستقلال العراقي.

 نهاية حركة البرزنجي

لم تعجب هذه المطالب الحكومة العراقية فوجهت حملة عسكرية للقضاء على الثورة الكردية المسلحة واستمر القتال بينها وبين قوات الشيخ البرزنجي حتى مارس 1931، في هذا العام استطاعت القوات العراقية الانتصار على قوات البرزنجي فانتهت ثورته وسلم نفسه للحكومة في 13 مايو/أيار 1931 وفرضت عليه الإقامة الجبرية في المناطق الجنوبية من العراق، وظل مقيماً بها حتى نشوب ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941.

ثم عاد محمد الحفيد البرزنجي إلى السليمانية ربما بموافقة حكومة الكيلاني وهدد مرة أخرى برفع السلاح ما لم يسمح له بالعيش في مدينته إلى أن استقر فيها بالفعل حتى توفي عام 1956 إثر مرض ألم به.

مكاسب حكومته

 حققت حكومته آنذاك مكاسب هامة فجعلت اللغة الكردية لغة رسمية ورفعت العلم الكردي، وأصدرت أول طابع لكردستان وأصدرت مجموعة صحف منها ((بانكي كردستان)) و((روزى كردستان)) و((بانكي حق)) و((أوميدي استقلال)).

من أقواله:

وقد ذكره الطبيب الانكليزي (سندرسن باشا) طبيب العائلة المالكة بأن الشيخ محمود الحفيد كان مصاب برصاصة في ظهره نتيجة معاركه الطويلة وقد استقرت قرب عموده الفقري وبعد معاينته من قبل الطبيب سندرسن نصحه الطبيب بعدم  إجراء أية عملية جراحية لخطورة موقع إصابتها وهنا رد عليه الشيخ محمود الحفيد قائلاَ: هذه الرصاصة إنكليزية وأنتم الإنكليز إذا دخلتم مكان ….حتى الشيطان لا يستطع أن يخرجكم منه.

إعداد: آرتيش الحسيني

زر الذهاب إلى الأعلى