مقالات

أردوغان من الانحراف السياسي إلى قاع المهزلة

بافي جكر

لم يعد بمقدور سيد الحرملك ــ بعد فضائحه وهزائمه المتلاحقة ــ المواربة أو الانزواء عن الشعب السوري الذي احتمى به في الخارج والداخل، وكان يعيش على أوهام رسمها له أردوغان طيلة سنوات مضت، لقد بانت الحقائق وبرزت من بين غبار المصالح الدولية حلول المعادلات الثلاثية الحدود بين تركيا وروسيا وإيران، وبدأت نهايات الأمنيات الكبرى تتقاذفها رياح الانعطافات والتخلي عن مصائر الملايين الذين كانوا في جيب أردوغان للمتاجرة بهم في البازارات الدولية وكانت آخرها في روسيا التي عاد منها السلطان العثماني (بخُفي حُنين) متهالكاً خائر القوى مهزوماً على المستويين الداخلي والخارجي.

آن الأوان لهذه الشخصية الدونكيشوتية أن يقرَّ ويعترف بالهزيمة، ويعلن على الملأ وجُوب تسميته (الرجل المريض) لِما اقترفت يداه بحق الشعب السوري ومآلات سياساته المنحرفة والمدمرة للداخل التركي على المستوى المجتمعي والمؤسساتي، وهذا يقتضي سؤالاً مُلحاً من حق أي متابع للوضع السوري أن يسألَ: ( ماذا جنى أردوغان من تدخُّله في سوريا؟؟). وللإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى المحطات الرئيسية منذ بدايات الأزمة السورية.

كثيرة هي الأسباب التي جعلت الشعب السوري ينتفض كبقية الشعوب في الدول التي حصلت فيها ثورات ــ لن نتطرق إليها وليست بخافية على أحد ــ بَيْدَ إن نقطة التحول في مسار الثورة السورية بدأت عندما امتدت إليها يد التركي حين أوفد أردوغان وزير خارجيته آنذاك أحمد داوود أوغلو إلى سوريا وزعم الطبالون والمهللون له على وسائل إعلامه بأن وزير الخارجية وضع عدة نقاط أمام الرئيس السوري ممهلاً إياه بضعة أيام لحل الأزمة أو لتهدئة الاحتجاجات الحاصلة في سوريا.

المفارقة أن النظام التركي بدأ بفتح مخيمات اللجوء على حدوده الجنوبية قبيل انقضاء المدة الممنوحة للنظام السوري، وهنا أسئلة تطرح نفسها بشدة: لماذا فتحت تركيا مخيمات اللجوء؟؟ ما الرد الذي سمعه داوود أوغلو من النظام السوري حينذاك؟ ما الاتفاقات التي حصلت بين النظامين؟؟ ما دور الاخوان المسلمين في اللعبة للانتقام من كل سوريا ثأراً لمجاز حماة؟؟ كيف تحوَّلت الثورة إلى تمردٍ مسلَح؟؟.

أردوغان وليد الذهنية العثمانية دغدغ شعوره هذه الأمجاد ليُسخِّر تنظيم الاخوان المسلمين

للسيطرة على المناطق الممتدة من شمال حلب إلى الموصل والباب واعزاز وادلب وفقاً للاتفاق الملّي رغم شهر العسل الذي كان بين النظام السوري والتركي آنذاك.

بيد أنّ دُهاة السياسة في سوريا قطعوا الطريق عليه وعلى الحراك الشعبي السلمي، ويبدو أنهم عرفوا نوايا النظام التركي.

بحسب المعطيات الحسية والمشاهدات العينية، وبعد ستة أشهر من الاحتجاجات السلمية فُتِحَت الحدود اللبنانية أمام توريد السلاح للمحتجين على مرأى من أعين ضباط النظام وبعلمهم مقابل مبالغ مالية طائلة، وفي تحوُّلٍ مُريب وظروف غامضة تحولت الثورة إلى تمرد شعبي سني مسلح واقتتال طائفي.

يبدو أن النظام السوري أوقع تركيا في الشَرَك عنما أظهر على شاشات التلفزة بيارقَ سوداء ورجالاً بِلِحَى طويلة مما فتحت شهية أنقرة لجعل حدودها طريق ترانزيت لكل غوغاء وَهَمَج العالم للوصول إلى ميدان المعركة على الأرض السورية لتتحول انتفاضة شعبٍ ضد النظام إلى حرب بين الإرهاب ونظام يدافع عن شعبه، ومسارات هذا التحول في الصراع والانعطافات والتحالفات معروفة لدى المتتبع للأحداث السورية عندما أصبحت المجموعات الإرهابية على أبواب دمشق.

الدخول الروسي على خط الصراع المسلح أخرج الجيش السوري من غرفة الإنعاش، وفك حبل المشنقة من رقبته، وبدأ الجيش وحليفه الروسي والتنظيمات المتحالفة معه وأبرزها حزب الله خوضَ حربٍ طائفيةٍ ضروسٍ في سوريا.

بين هذا وذاك برز مسار آخر أكثر حرصاً على سوريا سمِّيَ الخط الثالث ( أي ليس مع من يسمون أنفسهم المعارضة ولا مع النظام وبراميله المتفجرة) على الساحة السورية بعد دراسة عميقة للصراع ونظرة استراتيجية بعيدة المدى وتوقع ما يمكن أن يؤول إليه هذا الصراع، وحقيقةً أن مَن قاد هذا المسار في بدايات نشأته هم الكرد، والذي سمي فيما بعد بمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية القائم على أخوَّة الشعوب وأن سوريا لكل السوريين ولهم ما عليهم من حقوق و واجبات.

الإدارة الذاتية من مفهومها الديمقراطي ومعرفتها بالأسباب الجوهرية المتعلقة بالصراع السوري انتهجت خطها الثالث ومشروعها الديمقراطي، وطرحته على العالم كرؤية ونموذج لحل العقدة السورية المتشابكة بالتوازي مع الحفاظ على مناطقها من هجمات الإرهاب بقواتها المشكلة من أبناء المنطقة. هذه القوات التي تحولت فيما بعد إلى جهة موثوقة ويُعتدُّ بها مما أدى إلى تحالف التحالف الدولي ضد الإرهاب معها.

محطات سياسة النظام التركي المتبعة في سوريا كثيرة واعتبرت في قاع المهزلة السياسية من قبل محللين سياسيين كثُر ومسألة رعاية هذا النظام للإرهاب والفصائل الراديكالية معروفة لدى القاصي والداني وموثقة بفيديوهات مسرَّبة واعترافات ضباط مشهورين في السلك العسكري وشخصيات بارزة من مؤسسي حزب العدالة والتنمية انشقوا عنه مؤخراً، ومحاولات أردوغان اللعب مع القوى الكبرى على كافة المحاور بسياسته المزدوجة لم تنطلِ على المتدخلين في سوريا كما أن فبركة المسرحية الانقلابية مروراً بالقبض على القس الأمريكي وتهديد أوربا باللاجئين السورين والتنقيب عن النفط في الجزر اليونانية وتدخله في ليبيا ومصر، و تحوله بين كفَّيْ المحاور الدولية من محور إلى آخر؛ لم تنقذه من تبعات سياساته المنحرفة التي ارتدت نتائجها على الشعب التركي بالدرجة الأولى في الانهيار الاقتصادي لتدني قيمة العملة التركية وما ينتج عنها من تبعات على المواطن ما أدى إلى انهيارات في حزبه وكانت القشة التي قصمت ظهره خسارته في الانتخابات البلدية مؤخراً أهم المدن التركية الكبرى كإسطنبول وانفصال شخصيات عتيدة في حزب العدالة عنه.

حقيقة أن مجريات الأحداث في الداخل التركي توحي بأفول نجم أردوغان وحزبه، وتشي بأن تركيا أصبحت في عين العاصفة وتحت المجهر من قِبل الدول العميقة، ولا يمكن لأردوغان أن يستمر على مسرح العمليات الدولي حين تنتهي مهمته، وتشير المعطيات أن إطار الدوامة السياسية التي يعيشها أردوغان تضيق عليه يوماً بعد يوم وتكاد أن تغرقه رغم تهديده و وعيده لمناطق شمال وشرق سوريا في آخر محاولة عبثية منه لإعادة تعويم نفسه وحزبه، ولكنه لم ولن يحصل على أكثر من (بوري بوظة) أو آيس كريم في كل صولاته وجولاته.

زر الذهاب إلى الأعلى