محمد عيسى
لا يمكن تجاهل حقيقة أن الثقافة السائدة حول مفهوم الدولة والأمة والهوية القومية، ماتزال تحمل تصورات ملتبسة في ذهن الكثيرين، وأن جواً من التشويش والخلط حول معاني فكرة الأمة والشعور القومي والدولة القومية وظروف نشأتها ووظيفتها، وحول الموقف منها مايزال يرخي بظلاله، ليس فقط في تفكير المجتمعات والجماعات السياسية ونخب المثقفين وفي برامج الاحزاب، بل حتى في عرف الفلسفة السياسية وتنظيراتها المختلفة عبر مدارسها المعروفة .فبينما درج منظروا الشيوعية بدءاً من “ماركس” و”انجلز” وصولاً إلى “لينن” فـ “ستالين” باعتباره ذو بصمة خاصة في هذا المجال، على اعتبار الأمة جماعة من البشر متشكلة تاريخياً ومقيمة على أرض محددة، وتتحدث لغة واحدة، وتربطها مصالح اقتصادية مشتركة بالاضافة إلى تميزها بسمات ثقافية محددة، فقد ميزوا مابين فكرة الأمة التي حددوا أن من مقوماتها أن تكون الجماعة المسماة بالأمة قد عاشت في ظل دولة محددة ولفترة واضحة من الزمن، ومابين الفكرة القومية أو مسألة المشاعر القومية التي لا ترتبط بشرط التواجد تحت سقف دولة بعينها، وبهذا تكون الماركسية أو الشيوعية في هذا الجانب متقاطعة، بحسب عبدالله اوجلان، مع الفلسفة الالمانية الهيغلية والتي تعد بحق الفلسفة الأساسية لنظام الدولة الرأسمالية القومية الحديثة، وهي في طريق صيرورتها التاريخية من المرحلة الإقطاعية الى الراسمالية، الهيغلية هذه، والتي يطلق عليها صفة اليمينية، تدعي أن هناك شعوباً “لا تاريخية ” وهي الشعوب التي لم تتمكن من إقامة دولة لها أو لم تعش في ظل تجربة الدولة، وبالتالي مثل تلك الشعوب يمكن أن تملك شعوراً قومياً، ويمكن أن تحمل نعت القومية لكنها ليست أمة في تعريف كل من ماركس وهيغل على حد سواء. وهو ليس التقاطع الوحيد بين النظرية الماركسية والفلسفة الأوربية الألمانية، بل هناك تماه آخر أطلق عليه أوجلان، توافق مع الهيغلية اليسارية، حول فكرة الدولة هذه المرة، حيث يرى بأن كل من الشيوعية الروسية والصينية على قدر المساواة قد خدما مفهوم الدولة في النظام الاقتصادي الحداثوي الرأسمالي وكرساه أكثر مما فعلته الفلسفة اليمينية عند هيغل.
وعلى الرغم من لفت الانتباه إلى أنه لا يشك بالنوايا الحسنة لماركس والماركسيين فإنه يشير إلى أن انشاءاتهم حول السلطة “الدولة”، “الكدح،القيمة” في رأسمالية الدولة، هو المتهم، وهو الذي ادى بالتجربتين في النهاية الى أن تكونا جزءاً من الدولتية، في نظام الدولة القومية الراسمالية العالمية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن النظام الاقتصادي الاجتماعي في دولة الحداثة الرأسمالية يعتمد في أساسه على الانقسام الطبقي والاستغلال، فيصبح مفهوماً الاستنتاج الاوجلاني بأن كلاً من مصطلحات “الأمة، الطبقة، والدولة” في فلسفة نظام الحداثة الرأسمالية، هي مصطلحات لمضامين غير أخلاقية، وينطبق هذا النعت على خواتيم دولة التجارب الاشتراكية.
وفي شان يتصل بعمق السطوة والتأثير لدولة الحداثة القومية الرأسمالية يسلط اوجلان الضوء على نقطة سلبية أخرى تتعلق بحجم الترابط في مجتمعات الشرق الأوسط بين التنظيمات الاسلامية السياسية ومابين نظام الحداثة الرأسمالية، وعلى مدى خضوع وتأثر هذه التنظيمات بالأجندات الحداثوية الرأسمالية. الأمر الذي يدخل كعامل تعقيد إضافي ضد مصلحة شعوب المنطقة الراغبة بالتغيير والتحرر .
يخلص التفكير الاوجلاني إلى تقديم صورة بانورامية إلى طبيعة الدولة الدولة القومية الرأسمالية ونظامها مفادها أنها دولة أزمات وأرباح متكررة وبشكل مكيف، وتحولت الى منبع قضايا ومشاكل بدل أن تكون مصدراً لحلول مشاكل المجتمع، وبالتالي ميؤوس منها ولا يمكن التعويل عليها، بينما تجارب الحياة توضح أن تاريخ الحضارة هو تاريخ المنجزات الديمقراطية، وأن الحلول متوفرة حصراً في تجربة المجتمعات الديمقراطية المتأسسة على قواعد نظام الأمة الديمقراطية، هذا النظام تحيد الدولة فيه عن هوية المكونات المنضوية تحت مظلتها، فالدولة هنا في نظرية الأمة الديمقراطية ليست دولة على شاكلتها في الدولة القومية الرأسمالية، بمعنى، ليست سلطة ديكتاتورية بيد فئة أو طبقة أو حزب، وليست أداة قمع لمصلحة أحد، بل هي نظام متطور أخلاقي وسياسي ينظم العلاقة بين المكونات ويؤاخي فيما بينها ويساوي بين جميع الأفراد والجماعات في الحقوق والواجبا، .يقر ويحترم ثقافة ومعتقدات الجميع ويمنع هيمنة ثقافة أو جماعة عرقية أو دينية على أخرى أو معتقد على اخر.
وبالانطلاق من بديهية أن دولة النمط الرائج في المنطقة الشرق أوسطية المركزية القومية والرأسمالية التي خبرتها شعوبها، لم تعد غير لبوس يضيق يومياً وبشكل متزايد عن حجم حاجات شعوب تلك الدول، ولم تعد غير إطار ينوء أو يكاد أن ينفجر من ثقل التحديات الوطنية والاجتماعية التي تواجهها، الأمر الذي يحتم “أن الخيار المتبقي الوحيد الذي يستطيع أن يستوعب التناقضات ويحافظ على وحدة الدول والمجتمعات” هو نموذج الأمة الديمقراطيه، كنموذج مؤهل حصري وحيد.