بقلم: سيهانوك ديبو
جملة لا بد منها: نهاية ما سميِّت بالمدينة الفاضلة و/ أو الدولة القومية المركزية
دون أدنى شك؛ الطبيعة على حق. وبالرغم من صبرها وحكمتها؛ إلا أنها تزمجر أيضاً. أشبه بقلب الطاولة على الحلفاء والخصوم وفي الوقت المناسب. وبقدر الملاحظ من الظواهر القاسية في الطبيعة؛ إلّا أنه يمكن النظر إليها في أنها (كفيلات التوازن) والعودة إلى الاتزان حينما يحدث عدمه أو يكاد يحدث. البراكين والزلازل، الأعاصير التي حينما تنتهي أو لنقل بأنها تؤدي دورها التنظيمي؛ يلحقها هدوء متّزِن.
ربما تقوم الطبيعة بحملات منظمة حينما تتحسس بالخطر الذي يتحضّر جراء حدوث خلل في العناصر التي تتألف منها أو أي تبدّل طارئ على النِسَبِ الموجودة في كنفها. المجتمع ليس بالظاهرة الغريبة أو التي تختلف عن الطبيعة، فليس بمقدور أي مجتمع أن يعادي الطبيعة. والمجتمعات الأكثر أماناً واستقراراً هي التي تحاكي ما في الطبيعة من حقائق وظواهر وتفاعلات ما بينها.
الطبيعة التي تسبق المجتمع، الطبيعة التي تبقى حينما يُصاب المجتمع بالمرض والانحطاط والزوال أيضاً. كم من حضارة زالت؛ وبقيت الطبيعة، أشبه أن تكون بالمراقبة. والإنسان في المجتمع الطبيعي أفضل من نظيره في المجتمع الوضعي. المسألة لا تقاس مع الذي يعيش على الأشجار والذي ينام على سرير؛ المسألة مرهونة برهن أيهما مجتمعات خطرة وأيهما مجتمعات آمنة ومسالمة. ولن يفهم بأنه سوى العودة الحصيفة ببناء مجتمعات أيكولوجية؛ مجتمعات طبيعية. أول القياس يبدأ: ما يلزم التعدد في الطبيعة والاختلاف تجسيداً له في المجتمع. وعليه فإن أفلاطون كان مخطئاً في دفاعه عن مدنيّة المدينة، وتخيّله عن المدينة الفاضلة؛ أول القول عن ذلك بأنها محاولة غير موّفقة في تجميع ضد مع ضد آخر.
كمن يقول في ذلك: ذئب حنون. فكل مدينة ليست بالفاضلة؛ لا ننظر بعيون اليوم إلى مدينة أفلاطون، وإنما بالعيون التي حينها وقبلها. ربما كان أفلاطون على عجالة في تأسيس المدينة لأنه أراد وأداً أيديولوجياً للحق الأمومي، وترسيخاً لإسقاط زمن الإلهة الأم. ربما؛ نحق القول وننصفه لو نقول بأن أرسطو (معلم وصديق ومستشار الاسكندر) يتحمل حصّة كبيرة من التدمير والعنف الذي حصل ما بعده على مرِّ ألفي عام. أخطاء الفلاسفة ليست مثل أخطاء البشر؛ أخطاؤهم تذهب بكل إيجابياتهم وأفعالهم ولو كانت المقولات العشرة، ولو كانت كل فكر. الفيلسوف رسل لربهم الفكر.
ولا يقلون شأناً عن نبي يحمل نبوءة أو رسالة من الله الواحد. وكل الأيديولوجيات المنغلقة كان لها فيلسوف نبي، وأسوئهم وأكثرهم تهافتاً من ربط حرية مجتمع بوجود مدينة مخصوصة بهم. ومن فاضل على حرية شعب بوجود دولة مقتصرة عليهم وتسمّى باسمهم. الحديث هنا؛ مخصوص على الشرق الأوسط ومنه وفيه. الدولة القومية المركزية مثل المدينة الفاضلة؛ كلاهما يتحضران للنهاية؛ ما يلزم فقط اشهار النعوة. واستعجال الدفن، ودعم الوليد الذي يبدو معافياً واسمه: الأمة الديمقراطية.
تَعَقُّب تاريخانية وأثر المواطنة
على الرغم من أن فكرة المواطنة تعتبر ناتج فكري لظهور المدينة، ومصطلح سياسي اجتماعي مرافق لها في الوقت نفسه. لقد صاحب في المدنية اليونانية كأول مدينة بزوغ فكرة المواطنة والمواطن. على الرغم من ذلك فإن من يرصد حركية المصطلحات منذ مطلع الألفية الثالثة سيجد بأن الأكثر استخداماً هي المواطنة. في ذلك؛ على الأغلب؛ تفسيرين:
تفسير متعلق ببحث الإنسان الدؤوب عن الحداثات التي تلائمه بعد وصول أغلب الحداثات إلى الحائط المسدود وفشلها في تحقيق الديمقراطية. تفسير آخر وأعتقد بأنه الأقرب متمثل بأن فشل الدولة القومية المركزية يحل محله – يلاحظ عزم كبير كي يحل محله- نموذج آخر متمثِّل بدوره بالمدن العملاقة.
ربما نسير دون أن نعلم للوصول إلى مشهد العشرين أو الأكثر بقليل من المدن العملاقة يمثلون العالم كله. أي نهاية الحداثة الرأسمالية في مرحلتها الثانية الصناعوية التي أنتجت الدولة القومية والتي جاءت بدورها بعد نهاية الحداثة الرأسمالية في مرحلتها التجارية. هذا يناله الكثير من الدقة إذا ما أدركنا بأن الحداثة الرأسمالية تتجه نحو مرحلة المال الماليّ. وهذا يلزمه حتى يكون تحقيق أعلى درجة من الشعبوية. نعيش بدايتها الآن، وتتنشط بشكل كبير في أوربا وفي كل العالم، فلا يخفى على أحد ظهور الأحزاب الشعبوية قوية من خلال تحقيق نتائج متقدمة في برلمان الاتحاد الأوربي. انتعاش الشعبوية متعلق بالمرحلة التي تلحقها.
مرحلة أقصى التصادم ليبدو فيها مرحلة المال المالي بأنه الحل. حدث هذا بشكل كبير كنتيجة تكاد تكون المتوحِّدة في الحرب العالمية الثانية. لم يكن فيها الاتحاد السوفيتي إلّا الطرف في إنماء الرأسمالية وحداثتها. وإن ظهرت في لباسها الحمراء/ الشيوعية. أمّا السائل عن وجوب وماهية هذا التعقيد؛ فربما أفضل الأجوبة تكون بمفاد بأنه يلزم على طول الخط توفر معيار أساسي هو القيمة الاجتماعية والقيمة الأنسية حتى تحظى بالقبول والاعتراف.
حتى الفوضى فإن الغاية منها الوصول إلى القيمة التي تنهي أيّة فوضى. الحروب تخلق أساساً من أجل تحقيق قيمة ما. أصل ذلك أسطوري، وتفسير ذلك ديني ميثولوجي، أما غاية ذلك فيكمن في الحفاظ على إظهار الديمومة البشرية حين الانتقال من مرحلة إلى أخرى بالمترابطة. لا يمكن زجّه في خانة الصدفة أن يكن ظهور المدنية الأولى في أرض الأساطير والمعابد والأماكن المقدسة والتصور الاثني والأعياد.
أي في اليونان. بالرغم من أن المدينة الأولى كانت سومر. لكن مدينة اليونان كانت بهدف وظيفي تحددت من خلال بدء تواتر الهيمنة من عندها.
يبقى التأكيد بأن المواطنة فشلت في كل نظام مدينة هيمنة. منذ اليونان وحتى اليوم. لأسباب كثيرة أهمها المعلن والظاهر بأن التقاتل بين البشر استمر تحت نمطية أيّه المتفوق عرقياً، وأيَّه الأفضل قومياً. وعينها في التقاتل على أساس الديني وعلى أساس الطائفي/ المذهبي الديني. كنتيجة فإنها حروب الأساطير أو التاريخ المحرّف الملعوب به إلى درجة الوهم.
تساؤلات مشروعة في ماهية المواطنة والمحاور التي تحدد وظيفيتها؟
معلوم بأن المجتمع الطبيعي سبق المجتمع الوضعي. ومعلوم بأن الإنسان الفرد في المجتمع الطبيعي تميّز بشكل ندي من خلال وحسب وظيفته ضمن المجموعة المتآلفة بالأساس حسب الملكية العامة أو الملكية المشاع. وأن استحداث الملكية الخاصة الذي نجم عنه بالضرورة الثروة والسلطة مسببتين إلى أول تقسيم اجتماعي في المجتمع البشري بمرحلته الوضعية؛ فكان ظهور طبقة السيد المتسلطة على طبقة العبيد. وهذا بحد ذاته أدى إلى ضرورة ظهور مادة مخففة تحد أو تجمّل وطأة التقسيم إلى الحديث عن المجتمع السياسي في ظهور الفرد المواطن. ولعل إظهار المواطنة في إحدى جوانبها بأنها تعني حرية الفرد المواطن باختيار الحاكم المهيمن على المواطنين سوى مسرحية حقيقية أو تمثيلية وليست هي الديمقراطية التمثيلية؛ ربما هو التمثيل بالديمقراطية وتشويهها. الخطأ في هذه المسألة برمتها هو منح جهة معينة فكرة التفويض. إن كان حاكماً مطلقاً أو مؤسسة في حكم سلطة مطلقة. وهذا ما يفسر تبجيل هيغل لمفهوم الدولة على أنها الإله الهابط من السماء.
طرح بناء المجتمع السياسي على أساس الفرد أو المواطن تساؤلات جوهرية من مثل:
- كيف يمكن الانتقال من المواطن السيد أو الحاكم المهيمن إلى مجموع المواطنين الذين يعدون مصدر الشرعية السياسية؟
- كيف يمكن ترجمة سيادة الفرد– المواطن في شكل مؤسسات سياسية؟
- كيف يمكن تكوين هيئة سياسية من أفراد هم أساساً مستقلون ذوو سيادة ذاتية؟
- كيف يمكن المواءمة بين الاستقلال الذاتي للفرد والفروض الاجتماعية؟
- ألا يوجد تناقض بين حرية الفرد ومتطلبات المجتمع؟.
تمخضت عن التساؤلات ثلاثة محاور تمثل بدورها عمّا يجول في أذهان كل من يتناول المواطنة؛ بغض النظر عن الدوافع والأسباب؛ إنْ كانت حقيقة حقيقيّة أو بهدف تسييس المعنى. هذه المحاور هي:
أولاً: محور الحقوق الطبيعية فالسياسية للمواطن من المواطنة.
ثانياً: محور يتعلق أيَّها الواجبات الغائيّة للمواطن.
ثالثاً: محور يتعلق بالعلاقة الناظمة ما بين الإدارة والأفراد. أي من ناحية المؤسسات السياسية والتمثيل. وغائية الفرد التنويرية في المجتمع.
يمكن القول بأن أسس المواطنة تحددت بشكل أكبر ما بعد ويستفاليا إلى بداية القرن العشرين نحو منحيين. المنحى الفرانكفوني إلى المواطنة مستنداً إلى فلسفة روسو. والمنحى الانغلوسكسوني مستنداً إلى تعاليم مونتسكيو. إن كان في النموذج التعددي الليبرالي أو الديمقراطية الأحادية.
رؤى محددة إلى المواطنة
لأن الرؤى الكلاسيكية لمفهوم المواطنة قد حاصرت إنسانية الإنسان وعرقلت مهمته التنويرية إنْ لم نقل وقفت بالضد من حريته. فقد قام الكثير من المفكرين بتوجيه الانتقاد إليها كمثال تايلور الذي خلص إلى اعتقاد رئيس هو أنالبشر يستشعرون الحاجة إلى الاعتراف بالمواطنة ليس بدافع من كرامتهم فحسب، وإنما أيضا بدافع من أصالتهم وشرعيتهم، وهذه الأخيرة تكون بالانتماء إلى ثقافتهم، وتجريد المواطن منها لا يؤسس تنظيماً سياسياً. أي أن تايلور يرى في تحقيق الانتماء الثقافي للفرد/ المواطن تحقيقاً لمواطنته.
يعتبر هذا المفهوم متقدماً بشكل كبير إلى النقد الماركسي لرؤية المواطنة سواء عند مونتسكيو أو روسو. النقد الماركسي وإن جاء ناقداً سوى أنه فتح المجال على مصراعيه للمغالاة في الاندماج أي الإبادة الثقافية. بخاصة إذا ما أدركنا بأن النقد الماركسي يشير إلى أنه (لا توجد حقوق للإنسان خارج حقوق المواطن؛ لأن التمييز بينهما لا ينتج عنه إلا حقوق عضو المجتمع البرجوازي الأنانيّ، المنفصل عن الإنسان والجماعة). ألا نستطيع الاستنتاج من ذلك بأن هذه المواطنة تجعل البنية التحتية التي اعتبرها ماركس نفسه بأنه أساس الوعي خاوية لا قوة فيها؟ ثم ألا يفتح المجال لتحكم النظام الشمولي في أدق تفاصيل المجموعة؟
أما أوجلان الخصم للرؤى الليبرالية والنيو ليبرالية حيال المواطنة وبشكل عام حيال المجتمع. وهو الناقد التطويري للرؤية الماركسية بشكل عام. كتبتُ سابقاً: كان ديالكتيك هيغل يحبو؛ جعله ماركس منقلباً على ظهره. ليأتي أوجلان ويوقفه على رجليه من خلال نظريته السياسية المتمثلة بالأمة الديمقراطية.
فالمواطنة عند أوجلان تحقيق الانتماء الكلي بجميع أبعاد الانتماء هذا إنْ كان حقوقياً أو إدارياً إنْ كان اقتصادياً أو سياسياً. أي تحقيق الانتماء إلى مجتمعية المجتمع. وعلى الرغم من خلط أغلب المفكرين والفلاسفة لمفاهيم: الوطن والدولة والأمة والشعب والمجتمع. فهذه مفاهيم منفصلة عند أوجلان وكل واحدة لها التعريف الخاص بها. لا بل أنها لم تخلق دفعة واحدة وفي الوقت ذاته.
فلا عجب هنا حين قول لويس الرابع عشر الملقب بملك الشمس: أنا الدولة والدولة أنا. ولا عجب من ترداد أردوغان لقول: أنا القانون والقانون أنا. إنهما يحملان أقصى نواحي الاختزال في التنميط الفئوي وتكريس مفهوم الاستعلاء الذي يصاحبه بالضرورة خطاب الحقد والكراهية والاستعلاء. كلاهما غير معد للاستمرار. خلاف ما سبق وبالتحديد خلاف كل أنا متعظِّمة فإن أوجلان يؤكد بأن المواطنة نتاج لتفاعل ثلاث: حقوق الفرد الندي التي تعنى بالمواطنة الندية مرتبط تحقيقها بحقوق الجماعات المختلفة في البوتقة الواحدة؛ إن كانت جماعة قومية أو اثنية أو دينية أو غير ذلك من انتماء؛ ناتجهما من تفاعل يخلق بالضرورة المجتمع الأخلاقي السياسي.
فالمواطنة الأوجلانية أقرب أن تكون بالبنيان التاريخي الذي يحقق دوره من خلال أعلى تجسيد التمثيل في القوانين والممارسات الاجتماعية وفي المؤسسات. أي المواطنة تحتاج حتى تحقيقها إلى مشاريع تحققها وتحقق خاصية الانتماء في الوقت نفسه. في قضية تحقيق المواطنة السورية الجديدة يتم طرح مشروع الإدارة الذاتية؛ كمشروع ينبع عن مفهوم اللامركزية الديمقراطية؛ كمشروع يحقق سوريا دولة لا مركزية؛ كمشروع يحقق أعلى مشاركة للسلطات.
فالمواطنة ليست صنماً حتى يحافظ عليه من السابقين إلى اللاحقين، وليست صنماً إضافياً في تطبيق شكل واحد لها في المجتمعات المتعددة. على حد قول دومينيك شنابر وكريستيان باشوليه في كتابهما المشترك: ما المواطنة؟
في الأزمة السورية طُرِح الكثير من المقاربات على أنها الحل. منها التشديد على دولة المواطنة وعلى دولة القانون والوطنية الدستورية الكل فيها متساوون. في الحقيقة الكل من خلال هذا المفهوم مبتورون. يذكرنا بسرير بروكستوس. الأب الروحي لكل نمطية. ربما استندت إلى سريره كل فاشية ونازية وليس من خلال القراءة المعينة المغالية لفكر نيتشه فقط. إذا ما كنا مولعون بمفهوم الأمة؛ فلتكن بالأمة السياسية. وحينها لن نكون سوى في قلب الأمة الديمقراطية وفي عقلها.
عكس ذلك مخاطرة قصوى على المجتمعات الديمقراطية التي تضررت كثيراً ونزفت الكثير من خلال المغامرة التي ألمّت بها عن طريق الدولة القومية المركزية.
وحينما يقول أوجلان في نهاية رسالته الثانية/ الأخيرة التي نقلها محامييه: عليكم أن تكونوا رفاق الدرب الحقيقيين بالقوة الفكرية والذهنية والروحية معي.
ربما ليؤكد مرة أخرى بأن الشرق الأوسط له مدخل وسيع ليبدو من خلاله بالآمن الواسع المستقر. متمثل بحل القضية الكردية في القضية الديمقراطية. وبأن الشرق الأوسط ليس بعدو الجهات الدولية الأخرى إنما يجب أن تقوِّم نفسها من خلال تاريخها وغناه الثقافي والفكري والفلسفي لا من خلال نماذج تفرض عليه كي يليق أن يقوم هذا الشرق بدوره التكاملي المتمم. ربما يُساق الشرق الأوسط إلى معارك وتفرض عليه معارك؛ لكن قيمه بالأقوى وعصية على التهالك.
وذلك من خلال الاتساق المنسجم ما بين الفكر والذهن والروح للأوجلانيزم ككتلة تاريخية ضد تكتلات العدم والتنميط والمواطنيات الخاوية الذائبة.