ياسر خلف ــ
تمهيد:
طيلة سنوات الصراع التي عصفت بسوريا شعبا وارضا واستهدف بنيته المجتمعية والمعيشية على حد سواء، كان لابد من مشروع انقاذ وطني يمكنه ان تحدث ثورة حقيقة وتغيرا ديمقراطيا يمكن البناء عليه في وسط هذه المعمعة الهدامة التي فرضت عليه من قبل قوى دولية واقليمية تسعى الى تحقيق مصالحها المادية والمنفعية وبسط نفوذها التوسعية دون الاكتراث الى ادنى المعايير الاخلاقية والانسانية في ان يعيش المواطن السوري بحريته ويتمتع بكرامته.
وفي ظل هكذا صراع كارثي على سوريا كدولة محورية في الشرق الاوسط لتمرير المصالح الدولية المتضاربة وعدم النظر اليها كوطن وأمة متعددة الاطياف ومتنوعة الثقافات والاديان والتي كان من المؤمل ان تستعيد هويتها ورقيها الحضارية والإنسانية بعد سقوط النظام البعثي ودولة الأسد. لكن التدخلات الخارجية تمنعها مجدداً من التعافي لتجعل من الازمة والصراع اكثر عمقا وتنافرا حيث يمكننا القول ان اطراف الصراع في سوريا اصبحت عديمة الانتماء الى المجتمع السوري وتحولت الى ادوات لتفكيك النسيج المجتمعي الذي بات امام انهيار تام للمنظومة القيمية والاخلاقية واصبحت عبارة عن مجاميع راديكالية متشددة تفتك بأي شيء من شأنه أن يعيد تلاحمه وتماسكه الاصيل وهذا ما بات واضحا للعيان في الغزوات الارهابية التي تستهدف روج آفا وشمال سوريا والمقاومة التي يبديها ابناءها في محور سد تشرين وقرقوزاق امام طغاة العصر الدولة التركية ومرتزقتها وذلك عبر التمسك بهويتهم السورية وقيمهم الثورية التي استنفرت جميع قواها العسكرية والمدنية لخوض حرب ثورية شعبية مقاومين الاحتلال وادواته في رسالة الى العالم اجمع مفادها ان الحرية واواصر الحياة المشتركة وقيم الديمقراطية لا يصنعها الا الاحرار وعشاق الحقيقة.
من يمتلك سوريا وطنا وليس كأداة لتكريس الاحتلال والاستيطان!؟
إن مفهوم الوطن باتت كلمة شاذة لا يتم تداولها في سياقها المبدئي والتاريخي كأحد أهم القيم التي تجمع شعوبًا أو اديانا أو اقواما باستطاعتها العيش كأمة واحدة انطلاقا من غناها الأخلاقي وتنوعها الثقافي لتتحول لأحد اهم أسباب غناها الحضاري ورقيها المجتمعي.
قليل جدا من يشعر بمعنى الوطن كجغرافية تحتضن الجميع، وإن كان ذلك المعنى دفينا في كوامن النفوس ككل غريزة من غرائزها. فما الضير في أمة استطاعت تنظيم نفسها أو تعمل على تكوين نفسها عن طريق المنظمات والاتحادات الاجتماعية المدنية التي تستند على الادارات الذاتية المحلية بآليات ديمقراطية. لتصل الى مستوى الامة والمجتمع القادر على تنظيم كل شرائحه ومكوناته الاجتماعية والثقافية وحتى المذهبية والدينية والعرقية والعشائرية عن طريق المنظمات والاتحادات الديمقراطية، ذلك المجتمع الذي وصل الى مستوى إدارة نفسه بنفسه بشكلٍ مستقل عن الدولة التي طالما كانت أحد اهم الأسباب في تنافر المجتمع واغترابه عن حقيقته الوطنية والتاريخية لتستطيع الدفاع عن نفسها ضد الهيمنات المركزية والسلطات الدكتاتورية بكل الوسائل الديمقراطية السلمية أولاً وبالوسائل غير السلمية إذا اقتضى الأمر ذلك. لتتحول هذه الامة الى بوصلة يهتدى أو يستهدفها الجميع سواء اكان هذا الهدي او الاستهداف: غازياً او مستغيثا، لاجئًا أو مستعمرا، مهجرا أو محتلا. ليجدوا أنفسهم في رحاب امة تحسن احتضان المستغيث وتجابه الغازي تستقبل اللاجئ وترفض الاستيطان تكرم المهجرين وتقاوم المحتلين.
إن هذه الثنائيات المتضادة او الاصطلاحات المتنافرة هي مفاهيم تبرز حينما يتهدد الوطن او الامة بتعبير أوسع خطر التفكك والتشرذم والتشظي ولذلك بات من الضرورة أدرك المعنى الكامل والغرض الذي يكمن خلف هذه المفاهيم الاصطلاحية والهدف منها.
ومن هنا يمكننا القول ان النموذج الحي والضمير الثوري والوجداني والأمة الديمقراطية كمفهوم هي الوحيدة الكفيلة بمجابهة الاحتلال وادواته وهو ما يتجسد بشكل جلي في قوات سورية الديمقراطية وان هذا الانموذج النضال النقي بإمكانه صد هذ العدوان والانتصار عليه وذلك عبر تكاتف الشعب حوله وإيمانه بقداستهم وتفانيهم وتضحياتهم والتي اثبتت الوقائع ليس للشعب في روج آفا وشمال سوريا فحسب بل للعالم أجمع نبل مقاومتهم وصدق فلسفتهم ومبادئهم، اضافة الى انها غزيرة بقيمها الصادقة التي سُقيت من دماء الشهداء ورُسخت بنماذج لامثيل لها من المقاومة والفداء.
حرب الشعوب الثورية تعريفا ومصطلحا:
حرب الشعب الثورية هي الحرب التي يشارك فيها كل مكونات المجتمع من أطفاله، شبابه، نسائه حتى شيوخه، العامل والمهندس الطبيب النجار الفلاح، الفنان. كل منهم حسب إمكانياته يشارك بالحرب، حتى تبقى الثورة واقفة على قدمها ويقاوم الشعب دون أن يحتاج أي شيء من عدوه , ويقوم بتأمين كل متطلباته من الإمكانيات الموجودة بين يديه وبل يقوم بإيجاد الإمكانيات وتأمين الاحتياجات الأساسية الطبية والأكل والشرب وأخذ التدابير الازمة للحماية الجوهرية أمر لابد منه .
ان حرب الشعوب الثورية كمفهوم ومصطلح ليست حالة طارئة على الشعوب والمجتمعات لكنها كانت دائما احد اهم الأساليب التي لجأ اليها الشعوب لمجابهة المخاطر المحدقة بوطنها وقيم مجتمعها وهذه النماذج تبقى حية وراسخة في الوجدان والضمير الإنساني كالثورة الفيتنامية والكوبية والثورة الفرنسية ومقاومة جنوب افريقية وهي تتجدد دائما وتخلق إمكاناتها وظروفها الثورية الاصيلة حيث يمكن القول وبكل حزم ان مقاومة شمال وشرق سوريا وبشكل اكثر تحديدا مقاومة الشعوب الثورية في سد الشهداء وقرقوزاق هو تجسيد لمقاومة كافة الشعوب التي جابهت الغزاة والمحتلين والمستبدين وقد يكون الأنموذج الأكثر اشراقا ورقيا في مجابهة الإرهاب العالمي والابادة الممنهجة ليس بحق الشعوب المضطهدة ولكن لوجود الانسان بحد ذاته.
الحرية كقيمة ومعنى متدفقة وليست سلعة او مادة جوفاء
الكثير من العلماء والفلاسفة تناولوا مفهوم الحرية وعرفوها بجوانب وزوايا مختلفة وربما يكاد هذا المفهوم هو الاكثر قدما حيث بقي مستمرا منذ تكوين البشرية ومراحلها المتتالية رغم ذلك بالمقدور القول ان البشرية لم تصل الى الحرية كمفهوم ملازم للفطرة الانسانية لكنها بقيت جزئية ومؤطر بالزاوية التي ينظر اليها والطرف الذي يمنحها حسب رؤيته ومنظوره لكيفية منحها ومعاير ممارستها. وعلى النقيض يمكن القول أنّ درجة الوعيَ هي أقرب دائماً إلى الوصول الى الحرية وهنا نصل الى ان الحرية والمعنى مفهومان متلازمان ومرتبطان ببعضهما لحد التطابق والتي بدورها قيمة مرتبطة بمدركاتنا وطاقاتنا لذلك فان الوعي هي بوابة الحرية. أي أن الوعي المبني على الواقعية يفتح الآفاق أمام الحرية في كلِّ الأوقات. ولهذا السببِ أيضاً يمكن تعريف الوعيُ على أنه استمرار لتدفقُ الطاقة(الحرية) لان الحرية لا يمكنها الا ان تكون استمرارية لتدفق الطاقة (المعنى). وفي هذا الصدد يقول القائد عبد الله أوجلان (لا أتمالكُ نفسي من القول: وكأنّ الحريةَ هدفُ الكون. كثيراً ما سألتُ نفسي إنْ كان الكونُ يسعى نحو الحرية فعلاً. ولَطالما اعتَبَرتُ المقولةَ التي تُشِيدُ بأنّ الحريةَ نزعةٌ وبحثٌ عميقٌ خاصٌّ فقط بالمجتمعِ البشريِّ مقولةً ناقصة، وفكرتُ دائماً بوجودِ جانبٍ فيها معنيٍّ بالكونِ بكلِّ تأكيد. حسبَ رأيي، من المهمِّ بمكان عدمَ سلوكِ الأنانيةِ في موضوعِ الحرية، وعدمَ السقوطِ في اختزالها إلى الإنسانِ فقط. أَوَ يمكن إنكارَ كلِّ مساعي الحرية الكبرى للحيوانِ المحبوسِ في قفص؟ وبينما يُضارِع تغريدُ البلبلِ أرقى السيمفونيات ويُخَلِّفُها وراءه، فَبِأيِّ مصطلحٍ عدا الحرية يمكننا إيضاح هذا الواقع؟ وإذا ما تَقَدَّمْنا أكثر؛ ألا تُذَكِّرنا كافةُ أصواتِ وألوانِ الكونِ بالحرية؟ والمرأة باعتبارها أولَ وآخرَ عبيدِ المجتمعِ البشري بأعمقِ الدرجات، بأيِّ مصطلحٍ عدا البحث عن الحرية يمكننا إيضاح كلِّ مساعيها وتَخَبُّطاتها؟ وتعريفُ الحريةِ لدى أكثرِ الفلاسفةِ تعمقاً – سبينوزا مثلاً – بِكَونِها قوةَ المعنى أو الخلاصَ من الجهل، ألا يؤدي إلى البوابةِ عينها؟)
الحرية لا يصنعها إلا العاشقون:
قرأنا وسمعنا كثيرا قصصا عن العشق العذري حيث كانت تلك القصص تثير شعلة من المشاعر وتشدها نحو أبطال تلك القصص ربما لم يكن بمقدور المرء أن يقاوم تلك المشاعر ويتمنى أن يكون حاضرا في تفاصيلها ويُسقط وفاء شخوص تلك القصص على ذاته. ولكن هل فكر أحد منا أن يعيش شعب بأكمله على نبض عشق عذري لمقاومين ومقاومات ويستقي وجوده وهويته وآماله من أنفاسهم وابتساماتهم؟ اجل هكذا هي الحقيقة التي طالما كانت انعكاسا أو مرآة للعشق وفقط هو العشق الذي يفضي إلى الحقيقة الكاملة ربما يقول البعض أن الحقيقة دائما جزئية وليست مطلقة لكن النور المنبثق من العشق تجعل من المستحيل الشك أن الحقيقة المشبعة بضياء العشق هي يقين مطلق، أو بمعنى آخر يمكننا استحضار مقولة عظيمة للقائد آبو يقول فيها (إن العشق حقيقة مطلقة والحقيقة عشق مطلق) لقد استوقفني في هذه الجزئية من المقال ما الذي يبغيه العاشقون من الوصول إلى الحقيقة ربما يكون هذا تساؤل لا معنى له من حيث كون ترابط معنى الحقيقة بالعشق ولكن يمكن أن يكون النتيجة المبتغاة من الحقيقة هي من أكثر المواضيع أهمية على الإطلاق كونها مرتبط بمبدأ الوصول إلى الحرية عبر المقاومة والثورة والنضال والتضحية وهذا ما سعى إليها اغلب الفلسفات والأديان لإيصال شعوبها إلى حياة كريمة خالية من الظلم والاستبداد وهنا يجدر الذكر أن أعظم مراحل الوصل إلى الحقيقة مكانةً وشأناً هي أرفع درجات الحرية والتي لا ينالها ويصل إليها إلا الشهداء ,فالشهادة بهذا المعنى تعني أعلى درجات الحرية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها في سعيه للوصول إلى المعنى والحقيقة من الحياة ومن هنا يمكننا أن نستنتج المقولة التي تؤكد على أن الشهداء هم الأحياء الحقيقيون والخالدون. أجل لقد برهن المقاتلون والمقاتلات في وحدات حماية الشعب والمرأة وقوات سوريا الديمقراطية أرقى أنواع العشق العذري أو أكثر أنواع الحقيقة يقينا من خلال تضحياتهم ومقاومتهم وتصديهم لأكثر أنواع الشر ظلماً وظلاماً وجوراً.
نعم إنها فلسفة عشاق الحقيقة العذرية وآمال شعب لم يدخل الشك يوما في مسيرته التحررية إزاء أبنائه العاشقين الوالهين بمسيرة الخالدين المتجددين على دروب الحرية العصماء التي أنقذت ليس شعبها فحسب بل أصبح نهجهم ودربهم فلسفة وفكر يلهم كل وجدان وضمير حي وهذا ما بدا حقيقة لا تقبل الشك في كوباني قلعة الصمود والوجود وشنكال مأساة وملحمة العصر في لحظة انعدم فيها الضمير الإنساني لولا العاشقين والثائرين على دروب الحرية العذرية من أبناء درويش عبدي الحقيقيين. أجل هنا ندرك تماما أن “عدولي” لم تكن مخطئة في حبها لدرويش عبدي بعذرية لو لم ينقذ آلاف العدولات من السبي والبيع في أسواق النخاسة، أجل هنا يتضح وبشكل جلي من سار على نهج وخطى درويشي عبدي وأنقذ مئات الآلف من أبناء درويش وعدولة وجدد ملحمة وذاكرة مجتمعية أصيلة بتفاني وإخلاص منقطع النظير ربما ليس بغريب على من يحمل فكر وفلسفة القائد أوجلان هذا المنبع المنبثق للعشق العذري والذي يقول في استذكار ملحمة درويش عبدي في كتابه (القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية) بكل وضوح: “آه لو كنت ودرويش عبدي على ذرى سنجار أعدو به سهل سنجار! أعدو به سهل الموصل على صهوة حصان أبيض متسلقاً جبال كردستان ودويش الجريح على ظهري وأقول: انظر هناك الآلاف من عدولة والاثنا عشر نم قرير العين على قمم الجبال التي عرشها الإلهات تعتلي، لا تغتم فأهلا بالموت أين وكيفما جاء ما دامت الكردايتية والحياة الحرة حلتنا، وغدتا حقيقة أبدية”
اجل هكذا انطلق الثائرون والمنقذون مجددا من سفينة أحفاد نوح وإبراهيم من على ذرى جبال جودي وزاغروس وشنكال صوب الحقيقة التي فقدت قيمتها منذ أمد بعيد تحت نير الهيمنات التسلطية والدكتاتوريات المتآلهة ليطفئوا وينتصروا على نيران أوقدها النماردة حول كوباني وسد الشهداء وقرقوزاق بروح الآرينات العاشقات الوارثات لنهج مظلومٍ ومعصومٍ وفلسفة المقاومة عشق وحياة لينير ضياء عذريتهم ليس كردستان وشمال شرق سوريا فحسب بل العالم بأسره بوهج الحقيقة الساطعة الذي أُنشئ من مخاض الألم حياة أبدية خالية من الشك وليتوجهوا به صوب الظلمات والغمامات السوداء وليعيدوا شرايين الحياة المنقطعة إلى نهر الفرات الذي سبيت على شواطئ عذريته آلاف البريئات والمقدسات ليصبح مسيرة العاشقين والحقيقة العذرية فلسفة ونهجا يجدد دعوة الأنبياء لمقاومة المتآلهين ورَسخِ قيم ومبادئ الفطرة الإنسانية المخبأة في بوتقة المادة والمنفعة المصطنعة وليهدم جدران القدر المنصبة على كاهل الشعوب التواقة لحريتها وعشقها العذري، وليصبح حقيقة ملحمية كونية يتوارثها الجيل تلو الجيل.
المرأة كإرادة ومنبع للحرية في مجابهة الأفكار الظلامية
على الجبهة الشمالية من روج آفا شمال شرق سور يا مقاتلات مناضلات مكحّلات بعنفوان الثقة والفكر المنيع وذات قامات وهامات يصوّبن سلاحهن من خلف المتراس باتجاه قوى الظلام مرتزقة داعش ومثيلاتها وداعميهم. ماذا يتمنى المرء المعادي لهؤلاء الشامخات أكثر من أن تكون صورة المجتمع الذي يقاومه تنضح بمظاهر حداثية كهذه تثلج قلوب التواقين للديمقراطية والمدنية على وجه الخصوص. هؤلاء اللواتي يحملن رايات تحررنا على أكتافهن وهن يجابهن أعتى قوى الإرهاب فحولةً واستفحالا في مجتمعات بات تباع فيها النساء بأسواق النخاسة والسبايا وترى فيهن سلعة يضاف الى ممتلكاته أو يستغنى عنهن عند انقضاء شهواتهم وغرائزهم ولكن هل وقوف هؤلاء المقاتلات الكرديات بإرادة منقطعة النظير في وجه ليس تلك القوى الظلامية فحسب بل في وجه الذهنيات التسلطية الذكورية القابع على صدور آلهة السلام والحرية الحقيقية منذ ما يقارب الخمسة آلاف عام أتيت من فراغ وعبث؟ وهل هؤلاء الفتيات اليافعات بتلك النظرات الثاقبة البعيدة الأمد غايتهن إيصال رسالة وفكر معين إلى العالم الغربي الذي يدعي التمدن أو العالم الشرق الأوسطي ذي الفلسفات الدينية الذي لا يلبس أن ينتكس إلى طقوس الجاهلية بلباس ديني ابعد ما يكون عن ابسط قيم الإنسانية؟
كما حدث امام انظار العالم في شنكال من قتل وسبي وهتك لجميع القيم والمواثيق الانسانية لدرجة حدا بنساء شنكال لقص جدائلهن ورميها في وجه الهيمنات الذكورية وجيوشها المدججة وهيئاتها التي تدعي التمدن والتحضر، ويقُلن لهم في قرارة أنفسهن “لقد حمينا الطبيعة والبشرية لأكثر من سبعة ملايين سنة ولكنكم تدمرون الكون وتخلون بطبيعتها الأخلاقية منذ خمسة الاف سنة”.
فهل غاية هؤلاء المقاتلات تنبيه العالم بأسره وترشيده إلى قيم وإرث أنساني افتقر إلى جذوره من زمن سحيق وأسدل عليه الستار أو الظلام بحجة المدنية الرأسمالية وقوانينها المادية الربحية الخالية من المبادئ أو الطقوس والتعاليم والعادات الدينية التي تجرد الإنسان من التفكير بعقلانية وواقعية لتحليل وتقيم الإشكاليات المزمنة في مجتمعاتها بحجة التحريم والتحليل وأعراف لاهوتية ممنوعة من التغير والتعديل؟ فنظرية هؤلاء المقاتلات وفلسفتهم تقول أن المرأة ليست نصف المجتمع كما يروج في أوساط الفلسفات الكلاسيكية لكنها المجتمع كله وبتحرير المرأة يتحرر المجتمع بأسره
دلالات الاهتمام العالمي بفلسفة المرأة الحرة؟!
ومن هنا فأن الاهتمام والمتابعة الأوربية أو الغربية وأمريكا على المستوى الشعبي والرسمي يعكس حقيقة هذه الرؤية الثاقبة لفلسفة هؤلاء المقاتلات فالمجتمعات الغربية التي ما فتئنا نسمع عن ديمقراطيتها وحريتها الجذابة باتت الآن في شك وحيرة من مظاهر الحرية الخادعة التي تعيشها أمام إرادة الحرية التي تحملهن هؤلاء المقاتلات والنساء من كافة مكونات في روج وشمال شرق سوريا ومفهومهن عن الحرية ومعناها الأصيلة النابعة من جذورها الطبيعية على عكس الحرية المزركشة التي يروجها الأسواق الرأسمالية كزينة تنتهي صلاحيتها بانتهاء مواسم الموضة أو رواج سلعة أخرى أكثر مردودا ورواجا دعائيا وأكثر خلوعا أخلاقيا لتتحول إلى قوانين ربحية قابلة للتغير حسب الفائدة المادية والربح المالي الاعظمي والتي تكون فيها المرأة السلعة الأكثر إيرادا للمال والأكثر قابلية للترويج الدعائي (للحرية) التي يسعون لمجتمعاتهم قبولها والإقبال عليها واقتناءها. وقد لا يكون من المبالغ به أن انبهار المجتمعات الغربية بالمقاتلات الكرديات ومحاولتهم فهم المعنى الحقيقي للحرية التي يتمتعن بها هؤلاء الثائرات ورغبتهم في إشاعتها ضمناً إنما يعكس بشكل جلي عن صدق وحقيقة قيم ومعاني الحرية الأصيلة التي يتمتعن بها المرأة في شمال وشرق سوريا، والتي أرغم العالم بأسره لاحترام المبادئ والفكر الذي يستند إليها فلسفة هؤلاء المقاتلات التي حافظة على القيم الإنسانية ومعانيها النبيلة بإرادة لا نظير لها.
استعادة المرأة لدورها الجوهري كسبيل وحيد لإرساء قيم الحرية وحقيقة الشعوب الثورية.
لا بد للمرأة أن تستعيد دورها المحوري والجوهري في إرساء السلام وقيم الحرية وتسترد تاريخها المسلوب وريادتها وقيادتها للمجتمع بشكله الطبيعي الأصيل دون حروب وإراقة للدماء وسلب واستغلال لإرادتها أو إرادة المجتمع بأسره ففي السنوات الطويلة من الحروب في الشرق الأوسط والعالم وخاصة في كردستان أكثر من انضم إلى مسيرات منادية بالسلام والحرية والعدل والمساواة كانت النساء والأمهات وأكثر من بادر وتحمس وأضاء من الشموع وأذرف الدموع هم الأمهات وهذا نشهده بشكل يومي منذ قرابة الشهرين على جسر الشهداء التي التحمت فيها إرادة المرأة الثائرة وامهات السلام أصبحن اكثر صور الحقيقة جلاء وأكثرها تضحية لاسترداد قيم إنسانية اندثرت بصورة ممنهجة على يد الطغاة والمستبدين والمحتلين.
الادب والفن الثوري كقيمة وجدانية مجتمعية راسخة:
متى يغدو الفن ثورة في زمن أمسى النشاز يبجل كقدر أسود أو يسرق ثقافة الشعوب وفنهم وحضارتهم أمام أنظار أصحابها المحبطين المتخبطين؟! ألا يعلم المستبدون أن الفن لغة الألم التي يتقنها العاشقون ويحسنون انشادها وترنيمها بلغتها الأصيلة دونما زيف أو شذوذ، فهي لغة الأمهات التي تهدل بها لصغيرها آناء الليل. الحقيقة التي اتقنتها فطرتها الأزلية وهي تقارع الظلام بنور فؤادها المتهجد لصراط الاستقامة المخفية بالنار وبارود اللصوص المستعمرين والمحتلين.
لم يكن الأدب والفن الثوري في الثقافة والأدبيات الكردية حالة طارئة وليدة لفترات مرحلية لكنها كانت ولا تزال حالة ثورية تعبر عن الشخصية والتكوين النضالي لشعب مقاوم لآلاف السنين استمرت معه إلى وقتنا الراهن فقد حاولت ولا تزال الدول المهيمنة والمستعمرة لكردستان النيل من إرادة الشعب الكردي من خلال محو ثقافته وفنه فكما هو معلوم في ثقافة الغزاة والمحتلين يسعون بشتى السبل لفرض هيمنتهم واستعبادهم على الشعوب من خلال محو ثقافتهم وأدبهم وفنهم وصهرها في بوتقتهم من خلال السياسات العنصرية والقوانين الاستثنائية التي من شأنها إبقاء الشعب الكردي في عوالم الجهل الثقافي والاغتراب الأدبي والتعبير الفني المهجن والمستنسخ حسب قوالب تناسب ذهنياتهم الإقصائية وتبقي على استمرار سلطتهم الاستعمارية الإنكارية حيث أرغم الشعب على انتهال الأدب والفن من مستنقعات ثقافة التتريك والتعريب والتفريس وذلك حسب مناهج وأيديولوجيات ومفاهيم مبنية على أسس ومبادئ ومعطيات تاريخية غير صادقة تفتقر إلى جذورها وتكوينها.
ما الفرق بين الفن والادب السلطوي وادب وفن الشعوب الثورية!؟
يعد الاختيار بين الأدب والفن كقيمة مجتمعية وبين كونها أداة مادية جوفاء هو الحد الفاصل بين التسلطية والثورية
وان عملية الاختيار هنا لست سهلة كونها مرتبطة بشكل وثيق بالوجدان والضمير وهنا يمكننا سوق مقولة خالدة في الضمير الإنساني لقائد ثورة الملح الهندية المهاتما غاندي عندما قال: «كثيرون حول السُّلطة، قليلون حول الوطن». فليس من السهل أن تختار الوطن وتكرس روحك وأحاسيسك ومشاعرك وفكرك وقلمك في سبيل رفعة ورقي مجتمعك وشعبك وربما يكون الحالة الثورية في روج آفاي كردستان وسوريا عامة خير مثال على هذا التناقض الفظيع بين اختيار الوطن كقيمة ومبدأ وبين اختياره كسلعة ومادة مربحة فمنذ انطلاق الأحداث المأساوية في سوريا منذ ما يقارب 15 سنة ونحن نشاهد الكثير من الخلط بين الحالة الثورية والحالة التسلطية حيث يروج في الكثير من الوسائل الإعلامية المأجورة حالات التسلط الفكري والأدبي على أنها ثورة على الرغم من كونها لا تختلف من حيث التكوين والنشوء الذهني عن النظام التي ثارت عليها والتي كانت في الأمس القريب جزء لا يتجزأ من هذا النظام السلطوي الاستبدادي وترعرع في كنفه وكان احد أدواته الفكرية والفنية والأدبية التي مارست الإنكار والإقصاء بحق الشعب الكردي ومازال يمارسه بشكل أكثر تسلطا واستبدادا بعد أن بدل القناع البعثي إلى القناع الإسلاموي الإخواني الاردوغاني ليتحول إلى احد أكثر وجوه الاستبداد والإنكار القوم دينية فظاعة وإرهابا، ربما لا يختلف المشهد من هذا المنظور في الساحة الكردية في روج آفا كثيرا عن الحالة السورية بشكل عام فهذا الالتفاف حول السلطة والألقاب والمناصب أصاب الكثير من أصحاب ودعاة الوطنية والقومية الذين تخلوا عند ابسط فرصة سنحت لهم عن الشعارات التي نادوا بها سابقا ليتحولوا إلى مهرولين ومنبطحين صاغرين لإملاءات وأجندات معادية لشعبهم ووطنهم ومنخرطين في مخططاتهم ومنابرهم الإعلامية والأدبية والفنية جوفاء خاوية على عروشها لا تعبر عن الحالة الثورية والفكرية والأدبية والفنية التي تعيشها روج آفاي وشمال شرق سوريا لا يحملون أي مشروع فكري أو وطني عقيمون وعاجزون عن الإبداع مبادئهم وشعاراتهم الرنانة تباع وتسقط في أقرب جولة ومفترق وطني , هوس السلطة والاستحواذ على المناصب سرطان خبيث نخرت ضمائرهم وعقولهم .
أما على الجانب النقيض من هذه السقطة الأخلاقية لأصحاب المنافع والسلطة نجد هناك ثوارا حقيقيين كرسوا أرواحهم وفنهم وإبداعهم الأدبي والفكري إلى عراقة وأصالة نسج من معانا مجتمعهم ووطنهم وجعلوا من إبداعهم الفني والأدبي والفكري جسرا ومنبعا للنضال والبطولة والمقاومة أمثال الشهداء (جمعة خلو “بافي طيار” فيان بيمان, حسين شاويش وزردشت , عيسى حسو, وارشين , ارين ,عثمان ………)
قد يكون النضال مرتبطاً بمدى حبك وتضحيتك من أجل وطنك وشعبك، ولكن حينما يغدو الروح والأحاسيس مفعماً بسلاح الفكر وهي تُسطر ملاحم الجمال والبطولة بالأدب والفن الثوري حينها يمكننا التأكد أن ثورة “الموزاييك” من الثقافة المترابطة بأوردة الفن والأدب الثوري تماماً، كما سمعناها أو ورثناها من ملاحم فنية وأدبية بطولية كـ (عدولي ودرويش عبدي, ممو وزيني , سيامند وخجي, شيرين وفرهاد …..)، ولكن حينما يصبح رواد الفن والأدب الثوري ذاتهم ميراثاً ومنهلاً لشعبهم وتتحول مآثرهم إلى ذاكرة قيّمية جمعية مُفعمة بالمعنى حينها يمكن الجزم أنهم أصبحوا أيقونات لا تنطفئ قبسها كمُلهم مستمر للحقيقة المجردة دون شك والتباس. فهؤلاء الرواد القادة الخالدين والذين نسجوا بأدبهم وفنهم الثوري وأبدعوا وأغنوا بدمائهم الذاكرة الجمعية لشعب يسير على هدي ادبهم وفنهم الثوري ليكونوا استمرارية لآلاف من الشهداء الذين سبقوهم ومن لحقوا بهم ليتحول فكرهم وأدبهم وفنهم وملاحمهم ومآثرهم إلى ميراثٍ ومنهلٍ للإبداع والرقي المجتمعي ليس في روج آفا وشمال شرق سوريا فحسب بل على الصعيد العالمي ولتصبح بطولاتهم ومنابع فكرهم وأدبهم وفنهم الثوري مصدر الهام لجميع الشعوب التواقة إلى الحرية والانعتاق من نير الظلم والاستبداد.