بدران الحسيني
إلى ذاك الغصن الذي علقتُ عليه التميمة لتقيه من الأيدي الغريبة التي تمتد إليه، وتحميه من فؤوس الحطابين التي لا ترحم؛ سأروي لكم الحكاية.
تلك الحكاية؛ التي بدأت عندما أراد رجال الحطاب المُسَمَّنةِ في حظيرته منذ سبعة أعوام؛ والتي ُأفلتت من حظيرتها وكسرت أقفال أبوابها بيد الحطاب؛ فأرادت أن تسرق أعشاش الحمائم وتقتل الزغاليل وتمحو زقزقة العصافير وتدمي خدود الورد. ذاك الحطاب الذي تعمم بعمامة مزيفة واختبأ تحت عباءة الدين؛ كان يقطع كل غصن زيتون يزدرع في أرضنا وعلى بيادرنا.
أتريد أن تسمع الحكاية؟
كانت لنا أربعة كلاب؛ فرَّت من رجال الحطاب التي هجمت على قُرانا, والتي أرادت أن تجبرنا وترغمنا على أن نعيش في حظيرة أغنام الحطاب وأبقاره؛ قرأنا رسائل الحطاب من وجوه رجاله جيداً.
في أقصى حدود قريتنا من الجانب الشرقي كنا على أهبة الاستعداد لهذه الرسائل.
ببنادق الصيد أرغمنا رجال الحطاب الذين كانوا يقتحمون علينا التخوم كثيراً على الهروب.
كنا نفهم رسالة الحطاب وما يريد من رجاله كالذئاب الداشرة؛ إلا أن جدتي العجوز لم تكن تقرأ الرسائل جيداً؛ كان المنكوش بيدها اليمنى تحوِّط الزيتون وتغني وتدندن.
كانت تقول جدتي: “شجرة الزيتون لا تأبه بالأعاصير والزوابع مهما اشتدت عليها وكسرَت أغصانها وفِنْدَها؛ وادعى ممن لا يستحق حَمْلهَا بكلتا يديه المعقوفتين، فهي ستعود وتنبت وتفصد عُقَدَها من جديد؛ فأشجار الزيتون أدرى وأعلم كيف تنبت ومتى تُزهِر وماذا تنتج.
في الليل سِرْنا صوب النباح بأطراف حاكورتنا؛ هناك رجال الحطاب كانوا بانتظارنا؛ اقتادونا، وجَّهوا فوَّهات البواريد والبنادق نحو رأس أخي الصغير ذو السبع سنوات؛ الذي كان يلاصق جدتي كظلها الأبدي. اقتادونا إلى الحطاب عِنوَةً، هناك؛ رأينا في حظيرته كلاباً تلوُح بأذيالها لرجال الحطاب؛!!! وليس ترحيباً بنا، جدتي لم تكن تحمل في يدها سوى فِنداً من شجرة الزيتون تتسلح به، (كانت تقول عصا الزيتون كعصا موسى؛ ستبتلع اللصوص إذا اقتربوا منه)، كان الحطاب يُطعم كلابه لحماً مقدداً ومسلوقاً ونيئاً إلى جانب رجاله.
رجال الحطاب نقلونا إلى الجانب الآخر من الحدود، هناك.
هناك حيث تكوَّمت الياسمين الكئيب؛ والنواعير التي كانت تعنُّ من النخر الذي أصاب أخشابها، والدِّماء الملتصقة بالدِلاء؛ كانت تفوح رائحة صابون الغار؛ رائحة غريبة؛ كانت رائحة مجبولة برائحة الأجساد المتعفنة على جانبي الطريق حين عبرنا الحدود؛ هناك؛ رجال الحطاب دوَّنوا أسماءنا في أوراق بيضاء وصفراء وخضراء وحمراء.
مرَّت الأيام والشهور؛ تكدَّسَت الأوراق في حاويات المزابل، تآكلت وصدِئت الأوراق، صنعوا لنا منها قوارب ورقية، وضعونا في حقائب دبلوماسية محصَّنة.
على الشاطئ لم يعد لنا مكان في حقائبهم؛ تراكمت فوقنا الأوراق النقدية من كل الفئات، فألقونا على رمال الشاطئ، أخرجوا من جيبهم؛ السفينة الورقية، وأرغمونا على الصعود إليها، التفتنا إلى الوراء؛ كان رجال الحطاب مُقنَّعين؛ لم نعد نفهم ما يقولون!!
قال لنا قبطان السفينة الورقية: إنهم يقولون هناك و(أشار بيده إلى ما وراء الشمس الخافتة).
في السفينة الورقية أصابني دوار شديد لم أعهد مثله، كنت أتذكر وجوه رجال الحطاب؛ تذكرت رائحة المطر وفسائل الزيتون التي مازالت تحت عريشتنا؛ وشجرة الزيزفون الوحيدة في الركن الشمالي لحاكورتنا.
قال أخي الصغير؛ بصوت مرتعش والأمواج تتقاذفنا؛ ورائحة الأجساد المتحللة من حولنا، كنت أحمل كَمْشَةَ زيتون في جيبي؛ لكنها ضاعت مني في تلك الحقائب السوداء الكبيرة لرجال الحطاب المليئة بتلك الأوراق النقدية المختلفة.
كانت جدتي تمسح خدها وعينها من دموعها الممزوجة بأمواج البحر؛ في تلك اللحظات أيقنتُ أن مياه البحر ازدادت ملوحتها من الحرقة واللوعة التي كانت تبدو على وجه جدتي، التفَتَتْ إلينا ومدَّت يدها البرونزي الموشوم بأزلية الوجود، والمجبول بتراب الزيتون وقساوة الزمن، مدَّت يدها بدفءٍ، وهدوئها المعتاد، احتضنت حفيدها ومسحت شعره من أجزاء اللحم البشري التي كانت تلقيها أمواج البحر في سفينتنا الورقية، وتكوَّرت عليه، احتضنته كما يحضن الوطن ابناءه الشرفاء؛ غنَّت له بصوت جبلي حزين هادئ؛ قالت له شيئاً في أذنه؛ أنسَتْهُ كل الصَّخَب والضجيج الذي كان يصدر مناّ كلما مالت بنا سفينتنا الورقية، أو ارتطم بها موج البحر الهائج، سَمِعْتُ جدتي تقول وهي تنظر إلى الغيوم التي تتدحرج من فوق رؤوسنا، وتسأل: أ حتى الطبيعة الغريبة عدوتنا؟؟ أ حتى المناخ والأجواء والأنواء الغريبة عدونا؟؟ هنا تذكرت كلماتٍ لجارٍ لنا كان دوماً يأتي لمساعدة جدتي في ركاشة أرض الزيتون، ويساعدها في تقليم أغصان الزيتون التي أصابتها العفونة والأوبئة؛ وكان يقول باستمرار؛ والمنكوش في يده، الأرض وطن والشجرة وطن والمرأة وطن، ويقول تحت عنوان
/ المرأة وطن/
إن ضاع لي وطن كان يحضنني
يخبئني تحت جفنيه ويأويني
أنا أحتاج امرأة تضمني
تلم أهوائي
تكومني بين كفيها وتلهيني
كانت الذكريات والأشواق تُلهب قلب جدتي، ولكن جدتي كانت تتغلب عليها بدموعها السمراء، أما أنا فما زلت مذهولة ومندهشة ومصدومة.
أخي الصغير رفع رأسه قليلاً ونظر في عين جدتي وقال:
“اشتقت لآرين؛ هل ستعتني آرين بأشجار الزيتون؟ أعرف أنها كانت تحمل بندقية الصيد وعصا الزيتون تتدلى من خصرها، وتخرج في الليل إلى الحدود الشرقية من قريتنا وتجوب على طول الحدود هناك، وتمنع رُعاة الحطاب من أن تؤذي أشجار الزيتون، أتذكرين عندما تسللت الذئاب إلى بيت جارتنا من الجانب الغربي وأكلوا يدها اليمنى ونصف وجهها؟، وحاولوا أخذ رأسها معهم؟؟، قالت نعم أذكر وسأروي لك حكاية الرُّعاة وأشجار الزيتون عندما نصل.
كانت الساعات والدقائق والثواني تمر ببطء شديد، كمياه البحر المالحة، اشتدت الرياح. أتذكر جيداً عندما مرَّت بجانبنا سفينة كبيرة جداً؛ كانت كجبل كبير، سحبتنا الأمواج نحو جوفها وراء السفينة الكبيرة، انسكبت دموعنا واختلطت مع أمواج البحر، اسودت الحياة بأعيننا، كنا نعيش في كل لحظة سكرة من سكرات الموت، فقدنا الوعي والإدراك والإحساس.
عند ظهيرة اليوم التالي كنا كسرب الأسماك المسمومة، لفِظتْنا الأمواج على الشاطئ، كانت الرمال البلورية تتسرب إلى أجسادنا كالندم الذي تغلغل إلى قلوبنا أثناء الرحلة.
استيقظنا على صوت رجل طويل ذو بشرة بيضاء وشعر ذهبي، ومازالت جدتي متكورة على أخي؛ وتُخبِئهُ في حضنها، أيقظتُها بهدوء؛ تنفَّسَت جدتي عميقاً، غَلبَتْها الدموع الحارقة، لم تصمُد أمام ألم الفراق، وكأني نكأت فيها جرحاً غائراً صديداً، لم تتذكر شيئاً سوى أشجار الزيتون والوباء الذي أصابها، والديدان التي تنخر أغصان الزيتون؛ وتلك الزيزفونة التي كانت تفوح عطراً ذكياً.
عندما نظرت جدتي إلينا؛ صدرت منها أنيناً غريباً، سألت؛ أين بقية الرفاق؟ أين بقية الكُرد الذين كانوا معنا؟ لماذا عددنا قليل؟ هل ذهبوا وتركونا؟ أين الطفل الذي كان يخاف كثيراً ويبكي في حضن أمه؟،
أسئلة كثيرة طَرَحَتْها جدتي سريعاً؛ ولم أعرف لها جواباً حتى الآن.
ساقنا رجل الشرطة كما يُساق قطيع الغنم إلى خيام منصوبة ومعدة سابقاً على أطراف المدينة.
مدينة نائية؛ تحيط بخيامنا بعض الأشجار الحراجية، لا نسمع شيئاً سوى حفيف الرياح وأصوات الذئاب وابن آوى والعُقْبَان؛ مضت الأيام والشهور والسنون؛ ونحن رهائن تلك الخيمة.
ذات يوم تعثر قَدَمُ أخي بِغُصنٍ ملقاة بجوار خيمتنا، فوقع أرضاً حينما أتى راكضاً نحونا ليُخبرنا بأنه شاهد صورة ذاك الطفل الذي كان يبكي كثيراً وهو في حضن أمه في تلفزيون صاحب البقالية الوحيدة بين خيامنا؛ أسرعت الجَدَّة إليه بخطوات سريعة، رفعته عن الأرض من إبطيه بيديها البرونزيتين، لم تسأله الجدَّة عمَّا كان يريد أن يخبرنا به أخي عن ذلك الطفل!! اندُهِشتُ من أمرِها، احسست أن جدتي في عالم آخر؛ بل كأن ستاراً من الغشاوة كان مسدولاً على عينيها.
أخَذَتْ أخي في حضنها، وبدأت أحداقها تذرف دموعاً تحكي آلاف الحكايا؛ شكلت فوق خديها آهات شعب ألالاخ تحت الحكم الحثي، ورسمت السواقي والأنهار والجداول التي تمر من عفرين وجوارها.
سألها أخي: جدتي؛ أ لم تقولي بأنك ستقصِّين عليَّ الحكاية عندما نصل إلى بلاد الغرب؟ ها قد وصلنا؛ فقولي لي ما هي حكاية الحطاب والرُّعاة وأشجار الزيتون؟ ولماذا كنتِ طِوال الرِّحلة مُتقلبَةَ الأحوال والمِزاج؛ فتارة كنتِ تضحكين وتارة كنت تبكين؟.
يا ولدي عفرين؛ وحكاية أشجار الزيتون أزلية،
في رحلتنا كانت أشجار الزيتون تضحك وهي تطارد جيوش الملك الأكادي سارجون الأول من عفرين، وتبتلع أحجارها العسكر وتطاردهم أغصان الزيتون حتى وصلوا إلى الشاطئ فأغرقوهم؛ لذلك كنت أضحك، وكنت أضحك عندما تراءى لي الإله الميتاني (ميثرا) فوق غيمة صغيرة ويمر على أشجار الزيتون واحدة تلو الأخرى، ويفرغ ما في جوفها على الزيتون من حبات المطر وقساوة السنين؛ فتزداد صلابة أمام الأعاصير والسيول، وتتشبث شروشها أكثر فأكثر بالأرض. كانت هذه الحبات تحيي في جذوع الزيتون المظالم التي لحقت بنا منذ آلاف السنين، فتتسربل بدروع فولاذية وتطارد الجيوش الانكشارية.
ها قد مضت السنون علينا في بلاد الغربة والغرائب والعجائب يا ولدي؛ ولم نعثر على مبتغانا ومرادنا الذي زعموا أنه في بلاد من هذه البلدان.
عندما نَبَتَ شعر لحيةِ شقيقك الأكبر قال له أبوك: “أشجار الزيتون وجذوعها وأغصانها لا تغلى على أحدٍ مثلما يغلى على الكردي الحي، ولا يُكسِرُ ظهر الكردي إلا غدر الكردي الميت؛ الحطابون يسرقون وينهبون ولكن الزيتون ستَفصَد وتُزهر من جديد لأنها أزلية الوجود كوجودنا؛ ونؤمن بأن غصن الزيتون الذي يُقَلّم بيد الله ليس كغصن الزيتون الذي تمتد إليه أيدي اللصوص، الأرض لنا والغصن لنا والسماء والأنهار والجبال لنا، وُلِدنا من رحمها ومن شروش أشجار الزيتون، ونذوب ونموت ونحيا في ذرات تراب الزيتون؛ لا تهمنا السيول الجارفة الربيعية؛ الزائلة بزوال سحابتها.
أمضينا السنين هنا يا ولدي ولم نحصل سوى على الأوهام والنفاق والإتجار بنا، لم نحصل على ما وُعِدنا به.
هناك مثل شعبي دارج بيننا يا ولدي يقول: “ما حك جلدك إلا ظفرك”.
الآن تبين لي كل شيء على حقيقته يا بني.
سمعت أن أهل عفرين اخترعوا كل الذي كنا نفتش عنه؛ ويعالجون العفونة التي تصيب أغصان الزيتون؛ وكل أهل عفرين والقرى المحيطة بها جنباً إلى جنب يتناوبون في الحراسة؛ وجدعوا أنوف الكثير من رعاة الحطاب؛ ويُسَطِّرون ملاحم بطولية، ويسجلون تاريخاً جديداً كالملك الهوري (شاوشتار ) ويبنون ممالك جديدة كمملكة (نوزي) ولكنها محصنة.
تخبرني الطيور المهاجرة يا ولدي أن الإلهة العفرينية “آفيستا خابور” تتراءى لرجال الحطاب وتبني أمجاداً لن يستطيع التاريخ إزالتها من الصفحات، النوارس التي هاجرت معنا من نهر عفرين عادت إليه؛ حتى النورس مَلّتْ من بلاد العجائب (الغرب) ونِفاقها. لاشيء حيٌّ هنا غير المصالح يا ولدي؛ ما زلت أسمع صوت زقزقة القُبَّرَةَ التي كانت تعشعش بين زيتونتنا تناديني من جبل (بارِسْ) إذا مُتِّيْ في بلاد العجائب والغرائب والمصالح فلا تعودي لي مَيِّتَةً؛ كي لا يمس جسدك أرضٌ طُهِّرَت بابتسامات الزنابق والنسرين وهي تذبل. السنونات في رُدْهَةِ البيت مازالت تدافع عن حبة الزيتون بمنقارها الصغير كما تدافع عن عشها الصغير؛ وتبشرني بأن في جذع كل شجرة زيتون نبتت آلاف الشتلات من الزيتون وسواعد سمراء تقطع أيدي رجال الحطاب، ومازال الأيوبي يبتسم تارة ويبكي عندما يتناهى إلى أسماعه نباح كلابنا التي فَرَّت مع رجال الحطاب.