خورشيد دلي
كشفت أحداث ريف ديرالزور الأخيرة، حقيقة أجندات العديد من الأطراف المحلية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، وإذا كان مفهوماً دعم الحكومة السورية في دمشق، وحليفتها إيران، لما يسمى “المقاومة الشعبية” في شرقي الفرات بحجة مقاومة الوجود الأمريكي واستعادة السيطرة على هذه المنطقة، فإن تركيا بدت أكبر محرض لإحداث فتنة “عربية – كردية”، إذ وَجدت في هذه الأحداث فرصة ذهبية للتحرك من أجل تحقيق أجندتها، لكن هذه المرة بدماء السوريين، عرباً وكرداً، بحجة دعم العشائر العربية، فما أن بدأت هذه الأحداث حتى أطلقت حملة إعلامية كبيرة، إلى درجة أن وسائل إعلام تركية أطلقت على هذه الأحداث “الثورة السورية الثانية”، ووصفت رئيس المجلس العسكري لدير الزور، أحمد الخبيل، المعزول بعد اعتقاله بتهم كثيرة، بالقائد العربي، كما عنونت صحيفة الصباح التركية في اليوم الثاني لبدء الأحداث. لنشهد بعد ذلك حملة إعلامية غير مسبوقة، خاصة من قبل وسائل الإعلام التابعة للإئتلاف السوري وقطر، تصوّر ما جرى على أنه صراع عربي – كردي من جهة، وتحرض العشائر العربية على الانخراط في القتال ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة ثانية، وهو ما تجلّى عملياً في دعوات الفزعة التي أطلقها عشرات الأشخاص باسم القبائل والعشائر العربية.
أبرز ما ميّز الموقف التركي، هو موقف وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان؛ فالرجل لم يكتفِ بتحريض القبائل العربية قتال قسد والكرد عموماً، بل وصل به الحال إلى حدّ تهديد الولايات المتحدة نفسها، عندما خاطبها قائلاً: “ما لم تفعلوا ذلك، فإن ما رأيتموه من انتفاضة العشائر هو بداية فقط، هناك سيناريوهات أخطر ستظهر”، في إشارة واضحة إلى أن تركيا ستواصل حملتها التحريضية هذه، وستستثمر في دماء العشائر العربية حتى النهاية، لكن الأخطر من
حملة التحريض هذه، هو زج تركيا بمئات المسلحين من الفصائل المسلحة باسم أبناء القبائل والعشائر العربية للهجوم على مناطق الشريط الحدودي، من تل تمر شرقاً مروراً بمنبج وصولاً إلى تل رفعت في الغرب، بحجة دعم العشائر العربية في ريف ديرالزور ضد قسد، والأخطر ممّا سبق هو اقحامها لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) المصنّفة على قوائم الإرهاب، في هذه الأحداث، عندما سهلت مروراً بأراضيها انتقال مئات من مسلحي الجبهة من إدلب إلى مناطق التماس في منبج، وهو ما يؤكد أن تركيا كانت ترى في أحداث ريف ديرالزور فرصة ذهبية للقيام بعمليات عسكرية واسعة على طول جبهة الشمال، لولا نجاح قسد في وضع نهاية سريعة لما جرى في ديرالزور، وإفشالها الهجمات التي شنّت على جبهة منبج، وكذلك لولا تنفيذ الجانب الروسي غارات جوية على هذه الجبهة، وهو ما شكّل رسالة روسية غير مباشرة لتركيا بضرورة التوقف عن لعبة خلط الأوراق، وهي رسالة تعبر عن حقيقة تفاقم الخلافات الروسية – التركية، لاسيما بعد فشل قمة بوتين – أردوغان الأخيرة في التوصل إلى تفاهمات بشأن هذه الخلافات.
أما السؤال الذي يطرح نفسه، هل فعلاً تدعم تركيا القبائل والعشائر العربية انطلاقاً من أن هؤلاء عرب أم لاستغلال هؤلاء في تحقيق أجندتها؟ يقيناً أن تركيا التي شنت مؤخراً حملة لإزالة اللوحات الإعلانية المكتوبة باللغة العربية في شوارع مدنها، وتفرض التتريك على المناطق السورية التي تحتلها، وتجبر العرب والكرد على الانسلاخ عن هويتهم القومية والوطنية لصالح “التركنة”، ولا توقف حملات الكراهية والحقد ضد اللاجئين السوريين على أراضيها. لا تفعل تركيا كل ذلك محبّة بالعرب ودفاعاً عن هويتهم القومية وحقوقهم، وإنما لتحقيق جملة أهداف، وفي المقدمة منها القضاء على التعايش السلمي بين مكونات شمال شرق سوريا،
لاسيما بين العرب والكرد، وخلق حالة من الفوضى والفلتان الأمني في هذه المناطق لضرب مشروع الإدارة الذاتية، وإضعاف جميع المكونات السورية في الداخل لصالح التجمعات السياسية والعسكرية المرتبطة بها، في محاولة لفرضها كقوة مؤثّرة في الساحة السورية، وبما يزيد كل ذلك من نفوذها ودورها، وجعلها قوة مؤثرة في رسم مسارات الأزمة السورية مستقبلاً، ولعل المشروع التركي هذا لا يتوقف على سوريا بل يشمل العراق أيضاً، إذ لم يكن صدفة تفجر أحداث كركوك بالتزامن مع ما جرى في ديرالزور، وفي الحالتين كانت دماء قبائل وعشائر عربية وقوداً لسفك دماء العرب والكرد والسريان.. في معركة طموحات تركيا الجامحة.
من دون شك، الدرس الذي ينبغي استخلاصه من ما جرى في ديرالزور، هو معركة وعي الذات، وعي حقيقة أن لا مستقبل ولا استقرار في شرق الفرات وعموم سوريا دون التعايش السلمي بين جميع المكونات على أسس من المساواة والحقوق والتعددية، وأن وعي هذه الحقيقة يتطلب من الجميع أن لا يكونوا وقوداً لأجندات الدول الطامعة في بلادهم.
المصدر: نورث برس