د. مرشد اليوسف ـــ
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت كردستان جزءًا من الدولة العثمانية، لكن بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتقسيم أراضيها بين القوى المنتصرة، تم توزيع كردستان بين أربع دول:
“تركيا، العراق، إيران، وسوريا”، ولم تؤخذ تطلعات الكرد القومية في الاعتبار، وبات الكرد مكوِّن مقسَّم داخل دول جديدة ذات طابع قومي عربي أو فارسي أو تركي.
وفي سوريا، أصبح الكرد جزءًا من الدولة الناشئة تحت الانتداب الفرنسي، ولكنهم لم يُمنحوا أي اعتراف رسمي بحقوقهم القومية، رغم أنهم يشكلون معظم سكان المناطق الشمالية الشرقية (روجافا) “الحسكة، القامشلي، عين العرب، وعفرين”.
ومع تصاعد القومية العربية، حاول بعض القادة الكرد والسريان تشكيل كيان إداري مستقل في منطقتهم تحت الحماية الفرنسية، مستفيدين من سياسة فرنسا التي دعمت الأقليات لمواجهة المد القومي العربي، ولكن المشروع لم يُكتب له النجاح، إذ رفضته فرنسا في النهاية بسبب ضغوط القوميين العرب والسوريين المطالبين بوحدة سوريا.
أدى ذلك إلى تصعيد العداء بين القوميين الكرد والعرب في المنطقة، حيث بدأ الخطاب القومي العربي يتحدث عن الخطر الكردي وتفتيت سوريا.
ومع تصاعد الوعي القومي الكردي وتعميق سياسة التمييز ضد الكرد، تأسس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) عام 1957 بقيادة “أوصمان صبري” ونورالدين ظاظا وغيرهم، وكان الحزب يطالب بالحقوق الثقافية والسياسية للكرد، وليس بالانفصال، ولكن السلطات السورية رفضت الاعتراف به وقمعت نشاطه بشدة وقامت باعتقال قادته وحظره.
وفي العقود التالية، تم منع أي حزب كردي من العمل العلني، وواجه النشطاء الكرد السجون والتعذيب أثناء الوحدة بين سوريا ومصر بزعامة الرئيس المصري عبد الناصر وأيضاً أثناء حكم الانفصال، وتم بعد ذلك عدة ممارسات عنصرية وشوفينية أهمها الإحصاء الاستثنائي في عام 1962 الذي جرَّد أكثر من 120000 مواطن كردي من جنسيته السورية.
ومع انقلاب حزب البعث عام 1963، تبنّت السلطة الجديدة خطابًا قوميًّا متشددًا، وبدأت باتهام الكرد بالسعي إلى الانفصال.
ومع أن البعث كان في ظاهره حزبًا اشتراكيًّا، فإنه في الواقع هيمن عليه تيار قوموي عروبي متطرف، يقوم على فكرة الأمة العربية الواحدة وإنكار وجود أي قوميات أخرى ضمن الدولة، واعتُبرَ الكرد تهديدًا محتملًا لوحدة سوريا.
وفي هذه المرحلة، لم يكن موقف المجتمع العربي السني في سوريا منفصلا عن موقف الدولة، حيث تماهت الأغلبية العربية السنية مع رؤية البعث، إما بسبب التأثر بالدعاية القوموية، أو نتيجة الاستفادة المباشرة من سياسات النظام التي استهدفت الكرد.
وضمن تلك السياسات، تم تنفيذ عدة ممارسات قمعية ضد الكرد، وأبرزها:
الإبقاء على عملية التجريد من الجنسية السورية التي حصلت عام 1962، بحجة أن الكرد دُخلاء من تركيا، مما جعلهم محرومين من الحقوق المدنية ولا يستطيعون التملك أو الدراسة أو العمل الرسمي.
ومن ثم تم تطبيق مشروع الحزام العربي 1966، وهو مخطط لتغيير التركيبة السكانية في المناطق الكردية عبر توطين العرب محل الكُرد في شريط حدودي يمتد من ديريك شرقًا إلى سري كانيه غربًا، بهدف تعريب المنطقة ومنع أي تواصل مع جنوب كردستان وباكور كردستان.
ورغم ذلك؛ لم نرَ أي احتجاجات من العرب السنة ضد هذه السياسة، بل تبنّت الأحزاب القومية العربية، مثل حزب البعث والناصريين، خطابًا يدّعي أن هؤلاء الكرد جاؤوا من تركيا ويجب إعادتهم إليها مما عزَّز الهُوَّة بين العرب والكرد في المنطقة.
حكم حافظ الأسد 1970- 2000
ورغم أن النظام السوري في عهد حافظ الأسد كان قائمًا على حكم الأقلية العلوية، فأنه استطاع كسب تأييد واستغلال شرائح واسعة من العرب السنة عبر اللعب على وتر القومية العربية، وكان هذا واضحًا في عدة مراحل، واستمر القمع والاضطهاد وتم تجريم استخدام اللغة الكردية ومنع الاحتفالات بالنوروز وقمع أي نشاط ثقافي كردي.
كما استخدمت الدولة الأجهزة الأمنية لترهيب المثقفين والناشطين الكُرد، واعتقالهم تحت تهمة الانفصال، واستمر في قمع أي تحرك كردي محلي.
انتفاضة قامشلو عام 2004
(التجربة الأوضح لتخلي معظم العرب عن الكرد)
في 12 آذار 2004 افتعل النظام شجاراً في ملعب القامشلي بين فريقي نادي “الجهاد الجزراوي” ونادي “الفتوة الديري” واندلعت مظاهرات كردية في القامشلي بعد استفزازات وتعديات من أنصار النظام خلال المباراة بين الفريقين المذكورين، وتحولت الاحتجاجات الكردية إلى انتفاضة واسعة ضد النظام، ورد النظام بالقوة، فسقط عشرات القتلى، واعتُقل الآلاف، وتم إعلان الأحكام العرفية في المناطق الكردية، وقمع الجيش والأمن الانتفاضة بوحشية.
وفي هذه الواقعة لم تكن هناك معارضة عربية سورية أيضاً قادرة على التحرك لدعم الانتفاضة، فمعظم الحركات المعارضة كانت إما تحت القمع أو تركز على قضايا أخرى أو متماهية مع النظام. وحتى الإسلاميون، مثل الإخوان المسلمين، تجاهلوا الانتفاضة الكردية، رغم أنهم كانوا يعارضون النظام في قضايا أخرى.
وفي النهاية؛ تُرك الكرد وحدهم في مواجهة النظام، مما عزَّز لدى الكرد قناعة بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على القوى السياسية العربية السنية داخل سوريا.
الإدارة الذاتية عام 2011
مع اندلاع الثورة السورية في 2011، كان هناك أمل في توحيد جهود السوريين ضد النظام، لكن العلاقة بين العرب السنة والكُرد لم تتحسن، بل زادت تعقيدًا، واتُهِم الكُرد مرة أخرى بالسعي للانفصال، رغم أنهم أعلنوا مرارًا أن مشروعهم لا يهدف إلى تقسيم سوريا، بل إلى إقامة نظام لا مركزي.
وعندما طالب الكُرد بالاعتراف الواضح بهويتهم القومية رفضت المعارضة العربية السنية ذلك عند تشكيل المجلس الوطني السوري عام 2011، وتمسكت بخطاب سوريا دولة عربية.
وعندما أعلنت القوى الكردية الإدارة الذاتية في 2014، اتهمتها المعارضة السورية بالخيانة والانفصال، رغم أن الكُرد أكدوا أنهم لا يسعون للانفصال.
تحالف المعارضة السورية مع تركيا ضد الإدارة الذاتية وقسد:
وبسبب دعم تركيا للمعارضة، تبنّت الفصائل العربية المسلحة خطاب أنقرة، وبدأت تعتبر قسد والإدارة الذاتية مشروعًا انفصاليًا، بل وتعاونت مع تركيا في الهجوم على المناطق الكردية (مثل احتلال عفرين عام 2018 ومن ثم كري سبي ورأس العين).
ورغم أن النضال الكردي في سوريا على الدوام لم يكن يومًا نضالا انفصاليًا، لكنه قوبل دائمًا بالاتهام بالانفصال، في محاولة لحرمان الكُرد من حقوقهم المشروعة.
وصوَّرت الدعاية التركية والسورية الإدارة الذاتية على أنها مشروع دولة كردية واعتَبَرَ معظم العرب السنة (ما عدا شركاءنا في قسد والإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا) أن الكُرد عملاء لأمريكا ويريدون إقامة دولة كردية في سوريا، رغم أن الكرد لم يرفعوا أي مطالب انفصالية.