إلهامي المليجي ــ
في زحمة الجغرافيا وتصدعات التاريخ، ينهض الكرد شعبًا حيًّا، عصيًا على التهميش، شامخًا كجباله التي لا تنحني. لا يشبه أحدًا، ولا يريد أن يشبهه أحد. يحمل في روحه نارًا لم تنطفئ رغم العواصف، ويزرع في أرضه ذاكرة لا تتآكل رغم محاولات المحو.
إنه شعب الجبال وذاكرة الحياة.. ذاكرة تنبض في الأغنية، في الزخرفة، في رقصة الهلبركة الجماعية، في اللغة التي حوصرت قرونًا لكنها بقيت تنبت من بين الصخر، وفي العيون التي لم تُطفئها الخيبات بل زادتها إشعاعًا بالحياة.
هوية عصية على الذوبان
تمزق الكرد على أربعة بلدان، وتوزعوا بين خرائط ليست من صنعهم، وقوانين لم تُكتب بلغتهم. حُرموا من الاعتراف، وقُمعت ثقافتهم، وجرّمت لغتهم، وتَعرضوا لمحاولات طمس متكررة. ومع ذلك، لم يخضعوا لليأس، بل حافظوا على موروثهم كمن يحفظ كنزًا من ذهب.
نقلوا تراثهم من جيل إلى جيل كما تُنقل الوصايا المقدسة. لا تزال الأم الكردية تغني بالكردية حتى لو لم تكن تفهم لغة المدرسة، ولا تزال الجدة تروي حكايات ميديا وكاوا الحدّاد، فيما يرقص الطفل الكردي في العيد رغم المنع، كأن في رقصته ردًا على كل أشكال القمع.
المرأة الكردية… أسطورة تتنفس
في كل تجربة كردية، كانت المرأة حاضرة بقوة لافتة. لم تكن يومًا على الهامش، بل في الصفوف الأولى: تقاتل، تبني، تربي، وتغنّي.
من ساحات القتال إلى ساحات النضال المدني، ومن الحقول إلى المدارس، ومن الجبهات إلى شاشات الإعلام.. أثبتت المرأة الكردية أنها ليست مجرد شريكة في الهوية، بل ركيزة في صناعة المستقبل.
هي الجدة الحكيمة، والأم الصامدة، والمقاتلة التي لا تتراجع، والشاعرة التي تكتب التاريخ بأنفاسها. أسطورتها لا تُروى فقط، بل تُعاش كل يوم.
من ركن الدين إلى شرق الفرات: شهادة شخصية
سكنتُ لسنوات في حي ركن الدين بدمشق، الذي يضم نسبة كبيرة من الكرد. هناك عرفتهم عن قرب.. ناس طيبون، يعتزون بتراثهم، ويعيشون بانسجام مع محيطهم دون أن يتخلوا عن خصوصيتهم الثقافية.
في صباحاتهم الدافئة، في محالهم الصغيرة، في أغانيهم، في طيبتهم وكبريائهم.. شعرت أنني أمام شعب حيّ، يعانق الحياة رغم الوجع.
ثم جاءت زياراتي الثلاث لمناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فرأيت تجربة تتبلور، رغم التحديات. مشروع تعايش ومساواة ومسؤولية جماعية، يسعى لصون التنوع في وجه التمزق. وهناك، كما في دمشق، وجدت الكردي هو ذاته: لا يتخلى عن جذوره، ولا يتوقف عن الحلم.
درويش: الكرد ليسوا أقلية
قال الشاعر الراحل محمود درويش: “الكرد ليسوا أقلية.. إنهم أمة كاملة حرمتها الجغرافيا من الدولة، لكن لم تحرمها من الحلم.”
بهذه الكلمات، لخّصَ درويش ما عجزت عنه عشرات التقارير: الكرد ليسوا هامشًا في التاريخ، بل عمقًا فيه. ليسوا بحاجة لاعتراف شكلي، بل لتقدير حقيقي لصمودهم، لتضحياتهم، ولمساهمتهم الأصيلة في ثقافة المنطقة.
نقلاً عن موقع vetogate بتفويض من كاتب المقالة الأستاذ إلهامي المليجي.