جاسم الهور ــ
يُعتبر البعد الاجتماعي أهم ركن في حياة الإنسان، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولا يمكنه العيش بمفرده، وقد تميزت حياة المجتمعات البشرية القديمة بالمساواة الاجتماعية وتوزيع الحصص بالتساوي وتقاسم العمل، وكل ذلك كان سائدًا دون وجود قوانين تحكم بين الناس، أو تتحكم بهم، ولكن مع ظهور الذهنية المستبدة وبحثها عن السلطة من أجل الحصول على فائض القيمة والإنتاج، أدى ذلك إلى اختفاء العدل من الحياة المجتمعية، كما أدى إلى استعباد البشر، من أجل التحكم بالمجتمعات، فقد تم تشريع القوانين بذريعة إحلال العدل والقضاء على الظلم والاستبداد، وأول هذه القوانين كان قانون ــ اشنونة ــ الذي عثر عليه في ـ تل حرمل ـ وهو: قانون سومري يعود إلى الملك (لبت عشتار) ومن ثم جاءت شريعة حمورابي، وهي: مجموعة من القوانين البابلية والتي يبلغ عددها ( 282 ) مادة، والتي تحكمت بكل شاردة وواردة من شؤون حياة المجتمع، فمنذ ظهور السلطة وإحلال القوانين مكان الأخلاق ـ مات العدل – واختفت المساواة، وتقسَّمَ المجتمع إلى طبقات، وقد حاولت ثورات عديدة ضمن سيرورة الحياة البشرية (دينية ـ فلسفية ـ اجتماعية) من أجل حصول المجتمعات على حقوقها، وفي سبيل الوصول إلى العيش الكريم تحت مسمى (العدالة الاجتماعية)، ومما لا شك فيه أن أهمية هذا الموضوع ينبع من الوقائع الحياتية التي تعاش في عصرنا الحالي، حيث أصبح العيش في هذه الحياة، التي أُفعمتْ باللامساواة واللاعدالة واللاديمقراطية، أمراً عسيراً.
فالعدالة الكونية مبنية على العلاقة بين الموجودات، مثال ذلك: الأشجار تستنشق غاز ثاني أوكسيد الكربون وتقوم بطرح غاز الأوكسجين، وبالمقابل يقوم الإنسان باستنشاق الأوكسجين ويطرح غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يستنشق من قبل الأشجار، فلولا هذه العملية التبادلية التي يساهم فيها كِلا النوعين لحدث خلل طبيعي، ولكن عندما يقوم الإنسان بقطع الأشجار، فإنه يرتكب جريمة بحق العدالة الكونية، وهناك علاقة تأثر وتأثير فيما بين القمر والشمس والأرض، فالقمر من خلال تأثيره على الأرض يقوم بإحلال التوازن في حركة دوران الأرض، أما الأرض فهي أيضاً تسهم في جعل حركة دوران كل من القمر والشمس متوازنة، أما الشمس فتقوم من خلال شعاعها بإنارة كل من القمر والأرض مع رسم خط الدوران لكل منهما، وهذا المثال خير دليل على العلاقة الكونية القائمة على أساس العدالة، وهنا تكمن أهمية الموضوع.
أما إفساد هذه العلاقة الكونية ينبع من الإنسان بالدرجة الأولى، حيث يقوم الإنسان بتصيير نفسه مركزاً لكل الموجودات، فعلى سبيل المثال: يقوم الإنسان بقتل نملة، ولكن هذه النملة لا تستطيع قتل الإنسان، وكذلك الأمر فإن طبقة الأوزون متشكلة من تفاعلات طبيعية حيث تساهم في منع تسرب أشعة الشمس الضارة إلى الأرض ـ أي تساهم في منع تسرب أشعة الشمس الضارة ـ إلى الأرض ـ أي تساهم في خلق نظام دفاعي للأرض ـ ولكن الإنسان بنشاطاته الصناعوية يقوم بإلحاق الضرر بهذه الطبقة (فمن يقوم بحمايتنا نقوم بخنقه) فأين العدالة هنا…؟
فالعدالة موجودة منذ نشوء الكون، ولكن ما تشهده الحياة العملية في وقتنا الراهن هو اللاعدالة، بحق الطبيعة والإنسان والمجتمع وكل الموجودات، وهذا ما يجعل من العدالة النواة الأساسية لجعل الحياة حرة كريمة في مجتمع (ديمقراطي ـ أخلاقي ـ ايكولوجي حر) بهدف تحقيق براديغما العصرانية الديمقراطية، فبدون تحقيق العدالة الاجتماعية لن تنعم المجتمعات بأجواء الحرية والمساواة والديمقراطية الحقة.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع الكوني، فقد ذهب كثير من الفلاسفة لتقديم آراءهم حول العدلة، ومنهم:
1 ـ سقراط: لا يمكن تفضيل شيء على العدالة.
2 ـ زرادشت: السبيل للتخلص من هذا الجهل هو إرجاع العدالة إلى المجتمع.
3 ـ أفلاطون: يرى أفلاطون بأن الإنسان لديه ثلاث نزعات رئيسية (ميول) وهي (نزعة العقل ـ نزعة القوة ـ نزعة الحب)، وعلى هذا الأساس يعرف العدالة بأنها هي التوازن والتعادل فيما بين هذه النزعات الثلاث.
كما اعتبر أفلاطون العدالة هي إحدى الفضائل الأربعة (الحكمة ـ العدالة ـ الشرف ـ الشجاعة).
4 ـ كونفوشيوس: سأله أحد تلاميذه، ما قولك في المبدأ القائل بأن الإساءة يجب أن تجزى بالإحسان؟
أجاب بحدة لم يألفها تلاميذه عليه من قبل: وبأي شيء إذن تجزي الإحسان؟ لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان.
*ـ تعريف العدالة:
ـ العدل لغةً: هو خلاف الجور (الظلم)، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنه مستقيم.
ـ العدل اصطلاحاً: هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وهو استعمال الأمور في مواضيعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها من غير تقصير ولا تقديم ولا تأخير.
ـ فالعدالة تعني عدم الانحياز إلى أي إنسان، وهي رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فيه كل فرد؛ بشرط أن تنظم ضمن (القانون الطبيعي) حيث يشارك في صياغته الكل بعيدًا عن التحكم والسيطرة، والعدالة عكس الظلم والجور والتطرف.
ـ فتطبيق مبدأ العدالة يعني الإنصاف والمساواة وعدم التعدي وحماية مصالح الفرد والمجتمع، وهذا مفهوم أخلاقي يقوم على الحق والتعامل بإنسانية وعقلانية في ظل القانون الطبيعي.
ـ فالعدالة هي القوانين الطبيعية التي وُجدت مع وجود الكون وتحقيقها في ما يتعلق بالبشر، ويرتبط بمدى إدراكه للتعاليم والرسالات السماوية التي أرسلت للبشرية لنشر العدالة وتطبيق الأخلاق.
ـ لقد شغل تعريف العدالة الاجتماعية الأوساط الفكرية، فيعرفها القائد عبد الله أوجلان: (العدالة لحن بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والمجتمع، وبين المجتمع والطبيعة)، وعلى هذا الأساس يتساءل القائد: إذا أردنا إلقاء قصيدة من دون لحن حينها كيف ستكون؟ بالتأكيد ستكون جافة، وكذلك الحياة من دون عدالة بالتأكيد ستكون بلا معنى.
*ـ المفهوم العام للعدالة:
1ـ العدالة الكونية: علينا الاقتناع بوجود مبدأ العدالة في الكون، فما من موجود يمكنه أن يولد من دون معنى، أو ظرف مناسب، فالحكمة الإلهية أكثر عدلاً مما نرى فيما يخص موضوع التكوين، وسنكون على صواب أيضًا إذا اعتبرنا مجتمع المدنية مسؤولاً عن تحريف مهاراتنا في الرصد والملاحظة.
ـ فالإنسان هو الذي يستطيع تطوير كافة أنواع المعاني والممارسات اللازمة من أجل تكريس هذه العدالة، والحراك بما يتناسب وتلبية متطلبات العدالة من حيث تنظيمهم لأنفسهم وإضفائهم المعاني النبيلة على ذواتهم والانخراط في الممارسات العملية، فما التوازن الطبيعي في الكون سوى شرحًا لمفهوم العدالة بحد ذاته.
ـ إذن النظام الكوني العادل هو القادر غالبًا على استخدام حقه في الاختيار الحر، بموجب النظام الكوني، ويتحقق ذلك عندما نتوصل إلى التعريف الصحيح والعميق للعقل، ونحقق قدرته على الاختيار الحر (الحرية المجتمعية)، فالعدالة بحد ذاتها تحتاج إلى فرد ومجتمع حُرَّين.
2 ـ العدالة حسب المفهوم الدولتي: من المفيد التطرق إلى العلاقة بين القانون والنظام الدولتي، حيث أنه عادةً ما تسري القوانين في المجتمعات التي تآكلت وتفسخت أخلاقها، وازدادت فيها أشكال العنف، هذا هو سبب الفوضى، وتفاقم قضايا المساواة، فالقانون بالنسبة للدولة ضرورة لا مفر منها في ترتيب شؤون الدولة ـ فالدولة تضمن سيرورتها من خلال حاكمية القوانين وقناع الحقوق ـ فهدف القانون الدولتي أساسًا يتجسد في شرعنة اللامساواة والتمايزات الطبقية، وتأمين قبولها وتحصين نفوذها السياسي القائم وفق مصالح أشخاص محددين فيها لا أكثر، ومجرد طرح الدولة وإظهار نفسها على أنها دولة قانون يكمن في حقيقة هذه الدولة إنكار المجتمع الأخلاقي والسياسي كونها دولة قانون لا دولة أخلاق.
ـ ذلك أنه بالقانون تسعى طبقات الدولة إلى إحكام سيطرتها بعيدًا عن الأخلاق والسياسة، وهذا ما معناه إنكار الدولة للمجتمع الديمقراطي الحر، لأنه لا الدولة القومية ولا القانون يشكلان إطار المجتمع الديمقراطي؛ كون الدولة لم تترك حيزًا للأخلاق والسياسة ضمن قواعدها، وبالتالي تطبق العدالة حسب مصلحتها السلطوية.
*ـ العدالة والدين: إن ظهور الأديان بمفهومها العام؛ يعتبر ثورة ضد انهيار الأخلاق ضمن المجتمع، ويمكننا اعتبار الدين كثورة ضد المدنية ومحاولة الحد من السلطة لنشر العدالة في المجتمع (سيدنا ابراهيم خرج ضد السلطة النمرودية ـ موسى ضد سلطة امبراطورية روما ـ سيدنا محمد ضد سلطة ارستقراطية القبيلة القرشية وحيث جاء رحمةً للعالمين)
*ـ العدالة والقانون: القانون يختلف عن العدالة، حيث إن العدالة هي القانون الإلهي، أما القانون فهو من صنع البشر وقد ينسجم معه أو لا. تتسم علاقة الحقوق مع الأخلاق بأهمية كبرى، فالأخلاق كالإسمنت بالنسبة للمجتمع، حيث لا مجتمع من دون أخلاق، والأخلاق هي أول المبادئ التنظيمية في المجتمع البشري، والأخلاق المجتمعية تعني العدالة الاجتماعية جوهريًا، والأخلاق على علاقة قوية ووثيقة بالحرية في المجتمع أيًا كان يحدد حريته بوساطة أخلاقه، وبالتالي مَنْ لا حرية له لا أخلاق له.
ـ أمّا القوانين؛ فهي ضرب من ضروب السلطة الرأسمالية تهدف إلى قولبة المجتمع وفق المنظور الذي ترتأي الدولة مناسبًا لاستمرارية سلطتها، والفرق بين الأخلاق والقانون يتمثل في كون القانون عقاب وجزاء، بينما الأخلاق تقوم على مبدأ محاسبة الذات وتصحيح الأخطاء (النقد والنقد الذاتي)، وعلى الرغم من كل صِلات القانون بالحق والعدالة، فإن الوظيفة الأولية للقانون هي زيادة تعزيز سلطة الدولة ابتداءً من قوانين حمورابي إلى يومنا الحاضر.
*ـ العدالة والثورات الاجتماعية: إن قيام الثورات الاجتماعية نابع من سيادة الظلم والقمع والتسلط بحق المجتمع، إذ إن الثورة تعني التغيير الجذري للواقع وعدم قبول اللاعدالة واللامساواة، وهذا ما يذكرنا بقول سيدنا إبراهيم عليه صلاة الله للنمرود (من أنت لتقوم بكل هذا الظلم …؟) وهناك العديد من الأمثلة التي تجسد قيام الثورات المجتمعية ضد الظلم والطغيان.
*ـ العدالة الاجتماعية: هي إحدى النظم الاجتماعية التي يتم من خلالها تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع من حيث فرص التعليم، والعمل، وتوزيع الثروات، والحقوق السياسية، والرعاية الصحية، بغض النظر عن الجنس والعرق، أو الديانة، أو المستوى الاقتصادي بغية الوصول إلى حياة كريمة بعيدة عن التحيّز واللامساواة. ويمكن تعريفها أيضًا على أنها: النواة الأساسية لتصيير الأمة الديمقراطية حقيقة معاشة، وقد تطرقنا سابقًا بأن مفهوم العدالة مرتبط عن كثب بالحقيقة الكونية (أيّ كل الموجودات الحية، والجامدة تمتلك في ثناياها عدالة الوجود حيث لا يمكن لأي عنصر إفناء عنصر أخر في الكون)، وتطرقنا أيضًا إلى مفهوم العدالة حسب الأنظمة السلطوية (حيث بإمكاننا القول بأن الأنظمة السلطوية استطاعت ترسيخ هيكليتها المتحكمة بعد أن اعتصبت العدالة من المجتمع، ومن وجهة نظر سيسولوجية، كيف بإمكاننا التفكير بمجتمع لا تسوده العدالة؟ يبدو وكأننا نرى بحراً من سراب!
*ـ العدالة وفق فلسفة الأمة الديمقراطية: الديمقراطية هي النظام الحقوقي للساحة السياسية، وسيكون الحل العادل السلمي للمشاكل والمطالب الاجتماعية في إطار النظام الديمقراطي مع الالتزام بالحقوق، وهذا النظام هو القاعدة الأساسية لتحقيق العدالة، حيث سيوفر الحل الحقوقي الديمقراطي، الضمان للجميع، ولكل الشرائح وسيوفر الفرصة لمساهمة الجميع في تطوير المجتمع، إذ يجب الوصول إلى سريان مبدأ القانون الديمقراطي الذي يعتمد بالأساس على التنوع، ويتميز ببنية يسيرة وغير معقدة، في حين أن الدولة القومية الحاكمة هي أكثر أشكال الدولة التي تصوغ الإجراءات القانونية لأنها تسعى بذلك للقضاء على المجتمع الأخلاقي السياسي، بينما يعتمد النظام الديمقراطي، ويهدف للوصول إلى تكوين مجتمعات أخلاقية سياسية، فالأمة الديمقراطية هي أُمةٌ أخلاقيةٌ وسياسية،
ـ وبالتالي إن النظام الديمقراطي المبني أساسًا على تعزيز وتفعيل كل المؤسسات الاجتماعية هو الساحة التي تمثل العدالة الاجتماعية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كون العدالة هي الميدان الذي يبدع فيه المجتمع من خلال قيام أفراد المجتمع بحل مشاكلهم بأنفسهم، والديمقراطية التي تعني في جوهرها إدارة الشعب نفسه بنفسه هي أرقى اشكال العدالة بحد ذاته، لأن المجتمع فيها هو الأساس، ولا عدالة حقيقية في حال غياب رأي المجتمع وأفراده.